الكتَّاب أو الكتاتيب منذ صدر الإسلام وما بعده، ويسمى آنذاك عند السلف المكتب، أو معلم الصبيان، وهم المعلمون الذين يدرسون القرآن الكريم والقراءة والكتابة، وقد كان جملة من الصحابة -رضي الله عنهم- يعلمون الناس القرآن الكريم في المدينةالمنورة وفي الكوفة والبصرةودمشق، وأشهر هؤلاء الصحابي أُبي بن كعب وعبدالله بن مسعود الذي قال عنه سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم من أحب أن يقرأ القرآن غضًا كما أنزل فليقرأه على ابن أم عبد أي ابن مسعود، وكذلك كان زيد بن ثابت في المدينةالمنورة ومعاذ بن جبل وأبو الدرداء اللذان كانا يدرسان القرآن في جامع دمشق، ثم بعده جيل التابعين الذين أخذوا القرآن من الصحابة ومن أشهرهم أبو عبدالرحمن السلمي الذي دّرس القرآن الكريم سبعين عام -رحمه الله-، وهكذا تتوالى الأجيال بعد الأجيال في تعليم القرآن أولًا ثم القراءة والكتابة والخطوط والحساب ومبادئ العلوم الشرعية، فكانت هذه الكتاتيب هي المصدر الأول في جميع أقطار العالم العربي والإسلامي للتعليم، وكان كل عالم أو طالب علم أو أديب أو مسؤول يقف طويلًا في هذه المحطة، ومن مشاهير الأعلام الذين فتحوا مكتبًا لتعليم الصبيان الحجاج بن يوسف الثقفي -أمير العراق- الذي كان يعلم الأطفال في الطائف في أبان زهرة شبابه، وكان يطلق على الذي يعلم أولاد الخلفاء والأمراء المؤدب، وهو في درجة خاصة عند الولاة. وفي نجد كانت الكتاتيب قبل التعليم النظامي هي المدارس التي تخّرج منها العلماء والكتاب النساخ، ومن ضمن مدارس الكتاتيب مدرسة المُعلم والمربي أحمد بن صالح الصانع -رحمه الله- التي أسسها 1326ه، وكانت هي النواة والبنية التحتية للتعليم في المجمعة وقراها تقريبًا قبل التعليم النظامي، ومنذ تأسيس المدرسة في هذا التاريخ وحتى وفاة أحمد الصانع وهو يؤدي رسالته التعليمية التربوية، وأنعم وأكرم من رسالة ومهنة اضطلع بها بكل اقتدار وقوة وكفاءة ونجاح. وأحمد الصانع -رحمه الله- قدّم جهوداً خلال 31 عاماً في سبيل التعليم، وما هو المردود؟، لم يكن هناك مردود مادي يذكر، فالناس آنذاك في حالة يرثى لها إلاّ القلة الذين يملكون النخيل والمزارع والماشية، أو يتعاطون التجارة، فهؤلاء يمنحونه شيئًا من المال، وهو شيء رمزي بالنسبة لما يبذله نحو تعليم الناشئة وهو لا يشترط مقابل تعليمه شيء. نشأة حسنة وُلد أحمد بن صالح بن إبراهيم بن أحمد بن ناصر الصانع في المجمعة كما يذكر د. فهد المزعل في كتابه عن شخصيتنا عام 1279ه، أي في عهد الإمام فيصل بن تركي -رحمه الله- ونشأ نشأة حسنة، وقد تعلم مبادئ القراءة والكتابة في مسقط رأسه ثم رحل إلى الزبير لتطوير نفسه علميًا وثقافيًا، وكانت الزبير آهلة بالعلماء وطلبة العلم وحاضرة من حواضر العراق الجنوبي، والباحث حمود المزيني في كتابه (هذا ما قلته وهذا ما كتبته) يقول: وقد كان الباشا أحمد الصانع ووالده عبدالعزيز من المهتمين ببلدهم الأساس المجمعة، فعند مروره بالمجمعة في طريقه للحج عام 1903م استصحب ابن عمه أحمد بن صالح الصانع -شخصيتنا- إلى العراق وأدخله في مدرسة "دويحس الشماس" الشهيرة بالزبير، فلما تخرج منها بعثه للمجمعة بأموال لبناء مدرسة في الجزء الجنوبي من بيت جده أحمد بن ناصر الصانع أمير المجمعة ليكون مدرسة لأبنائها وما جاورها على غرار مدرسة "دويحس"، حيث أشرف على بنائها، فلما اكتمل البناء افتتحها للدراسة عام 1326ه وليس عام 1336ه كما هو متداول، وذلك حسب تأكيد كبار السن، يؤيد ذلك تاريخ ميلاد أحمد الصانع على الروايتين عام 1279ه أو عام 1293ه -وانتهى كلامه-، ولم يكتفي الباشا أحمد الصانع بتمويل ودعم ابن عمه -شخصيتنا- في بناء المدرسة بل أرسل له أموالًا لترميم وإصلاح مسجد جده ناصر الصانع المسمى مسجد ركية ناصر الذي بناه عام 1190ه بناء على وثيقة حفر البئر، حيث حفرت البئر والنحل على المسجد بتاريخ 1195ه كما أثبته المزيني في كتابه المذكور، إذًا فابن عم شخصيتنا الباشا أحمد الصانع له الدور الأسمى والقدم المعلى في مسيرة هذه المدرسة المباركة، فلولا عناية الله وتوفيقه ثم جهود الباشا أحمد في دعمه المادي لما قامت هذه المدرسة التي استمرت أكثر من ثلاثة عقود. الباشا أحمد والباشا أحمد الصانع -ابن عم شخصيتنا- كان لها حضور سياسي واجتماعي واقتصادي في البصرة، وهو متصرف لواء البصرة، وله مكارم وأيادي بيضاء على الفقراء وذوي الحاجة، فهو من الأجواد الأسخياء، وكان مفتاح خيرات في مجتمعه وبيئته وهو في الأصل من المجمعة، فقد نزح أبوه عبدالعزيز من المجمعة وتنقل في البحرين ثم الكويت وأخيرًا استقر بالزبير، وأصبح ذو ثروة وجاه ومكانة اجتماعية جيدة، ولعلنا في عدد قادم نبسط الكتابة عنه وعن ابنه الباشا أحمد، وقد ذكراه المؤلفان لكتاب إمارة الزبير بين هجرتين وهما عبدالرزاق الصانع وعبدالعزيز عمر العلي وذكرا كذلك أعلام وشخصيات هذه الأسرة الشهيرة الكريمة أسرة الصانع الذين نزح منهم أناس إلى دولة الكويت، وهم كذلك في الرياض. مدير ومعلم وموجّه وكما ذكرت أن أحمد بن صالح الصانع -رحمه الله- منذ افتتح مدرسته عام 1326ه وهو لوحده يقوم بدور المدير والمعلم والموجه التربوي مسخرًا كل ما منحه الله من علم في تعليم هؤلاء الصبية والأطفال، في زمن لا يتوفر التعليم النظامي، وكانت الأمية في نجد هي الغالبة، وتصور أنه قد لا يوجد في القرية النجدية إلاّ أفراد يحسنون الكتابة والقراءة وقد يكون واحدًا أو اثنين، كان أحمد الصانع منذ طلوع الفجر حتى تغيب الشمس ذلك اليوم وهو مع تلاميذه يعلمهم القرآن الكريم ومبادئ القراءة والكتابة، ولقد تحدث عنه المربي والمعلم مدير معهد الأنجال الشيخ عثمان الصالح قائلًا: هذا المُعلم له في يومه وليلته عمل دائب، فالنهار صبحه ومساءه للطلبة وله في الليل تهجد وتعبد، وله لدى العلامة عالم نجد عبدالله بن عبدالعزيز العنقري منزلة عالية، فكان في تشجيعه بارزًا وفي تقديره واضحًا، فهو من طلابه ومن المستمعين والدارسين في حلقاته التي تفيض علمًا ومعرفة -انتهى كلامه-، والشيخ عثمان الصالح معاصرًا له، وكان قد افتتح مدرسة بالمجمعة فهو مثله في الريادة التعليمية وقد كتبت عنه قبل عدة أشهر وعن جهوده في التعليم. ابتدائي ومتوسط ومدرسة أحمد الصانع -رحمه الله- هي بمثابة المرحلة الابتدائية والمتوسط تقريبًا، ومدرسة الشيخ عبدالله العنقري الذي بدأ عام 1329ه كأنها المرحلة الثانوية تقريبًا أو الجامعة، فلا يمكن أن ينظم تلميذ أو طالب إلى حلقة الشيخ العنقري دون أن يمكث في مدرسة شخصيتنا سنوات حافظًا أو قارئًا للقرآن وعارفًا بالقراءة والكتابة، فيأتي الطالب إلى حلقة ومدرسة العنقري التي طال أمدها وهو مهيئ لطلب العلم حسب التدرج وسلم طلب العلم آنذاك بقراءة مختصرات الشيخ محمد بن عبدالوهاب ومقدمة الآجرومية في النحو وبعدها من المتون والمختصرات، ثم الانتقال بعد ذلك إلى متون أوسع، لهذا نرى الذين درسوا عند شخصيتنا القرآن الكريم كان معظمهم أو كلهم قد درس على الفقيه عبدالله العنقري ثم العلامة عبدالله بن حميد حينما تولى القضاء بعد العنقري في المجمعة وما تلاه من قضاة بعد الشيخ ابن حميد مثل الشيخ المطوع والشيخ سليمان بن حمدان والشيخ سليمان بن عبيد. نباهة ونجاح وذكر د. فهد بن عبدالله المزعل في كتابه عن أحمد الصانع -رحمه الله- بعنوان مسلك الشيخ في قبول الطلبة وتربيتهم قائلاً: كان له مسلك فريد، فهو لا يقبل من الطلاب إلاّ من كان وليّه جادًا في تعليمه، حريصًا أن يتلقى ابنه العلم، وكان حرصه على استمرار هذا الطالب في الدراسة أشد من حرص وليّه -انتهى كلامه-، ثم ضرب لذلك مثالًا لأحد التلاميذ الذين ترك الدراسة لأجل لقمة العيش فرآه وقال له: "أنا أعطيك مثل الذي تتقاضاه عن عمل يومك"، وكان يصر على هذا التلميذ لأنه شاهد فيه علائم الذكاء والفطنة، فهو إذًا يتبنى الطلبة الموهوبين، ويعرف الفروق الفردية، وهذا من نباهة ونجاح المعلم، فشخصيتنا لا ينقطع عن تلاميذه، بل يتابع أحوالهم بدليل هذه الواقعة التي تثبت ما نقوله، فهو يتفقد تلاميذه غيابهم أو حضورهم، لذلك كان مدرسته علمًا بارزًا في المنطقة، وخرّجت الكثير من التلاميذ النجباء الذين أصبحوا فيما بعد قضاة ووزراء ومسؤولين في الدولة وعلماء ينهل من علومهم، وأدباء وشعراء ووجهاء من ذوي المكانة الاجتماعية، وسرد د.المزعل في كتابه هؤلاء التلاميذ الذين تعلموا في مدرسة شخصيتنا من قضاة وعلماء ومسؤولين تربعوا أعلى المناصب والقيادات، وكل هذه ثمرة شخصيتنا الذي لم يبتغي من تدريسه جزاء ولا شكورًا، ولعله نال الخيرية حينما قال الرسول صلى الله عليه وسلم "خيركم من تعلم القرآن وعلمه"، فهو قد تعلم القرآن وعلمه ودرسه وحفظه، وإذا كان المرء حينما يرحل من هذه الدنيا ينقطع عمله إلاّ من ثلاث، وذكر منها أو علم ينتفع به، والتلميذ من العلم النافع الذي خلفه ذاك الأستاذ أو الشيخ، وكم من تلميذ فاق أشياخه وأساتذته وتاريخ السير في القديم والحديث زاخر بالأمثلة. طريقة تعليمه وانتهج أحمد الصانع -رحمه الله- في تدريس تلاميذه منهجاً جيداً يتحدث عن طريقته في التعليم د.المزعل قائلاً: وأما طريقته في تنظيم الطلاب أثناء الدراسة؛ فكان يجعل الطلاب مستويات، على قدر ما تعلموه، وعلى هيئة السنوات الدراسية في الزمن الحاضر، وفي مدرسته ثلاثة مستويات؛ الأول: المبتدؤون، ويطلق عليهم "الغبيبة"، الثاني: المجردة، وهم الذين قطعوا مرحلة من الدراسة وشرعوا في نسخ الآيات من المصحف في لوح الكتابة، والثالث: المغيبة وهم الذين شرعوا في حفظ القرآن عن ظهر قلب، وكل واحد من هذه المستويات يقسمه إلى مجموعات إذا استلزم الأمر حسب كثرة طلاب المستوى وقلتهم، وكان رحمه الله يطلق على كل مجموعة منها لقباً يشعر بالمدح نحو البهلول، السحنون، الزمارا، المعين، وإن كان غرض الشيخ منها تمييز كل مجموعة عن الأخرى إلاّ أن اختياره لمثل هذه الألقاب يدل على علمه وفقهه وحسن خلقه -رحمه الله-، وأما منهجه في تدريس طلبته، فأول ما يعلمهم الحروف الهجائية نطقاً وكتابة على منهج القاعدة البغدادية، وكان يصور الحرف لهم في الأرض، فإذا ما أتقنوا تعلم الحروف، شرع في تعليمهم قراءة القرآن من المصحف، فيخصص للطالب كل يوم عدداً من الآيات ليتعلم قراءتها، وهكذا دواليك إلى أن يتقن تعلم قراءة القرآن الكريم، ثم ينتقل إلى المستوى الثاني ويعرف أصحابه بالمجردة؛ لأنهم قد شرعوا في نسخ آيات القرآن من المصحف في لوح الكتابة، فيخصص يومياً للطالب عدداً من الآيات يقوم بنسخها في بيته ثم يعرضها على الشيخ في اليوم التالي ليصححها له، وهكذا دواليك إلى أن يستكمل نسخ جميع القرآن وخلال المستويين السابقين يتعلم الطلاب، الأصول الثلاثة، وآداب المشي إلى الصلاة، للشيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله-، ومتى ما تجاوز المجردة مستواهم بإتقان فإن الشيخ يجيزهم بفسحة من الوقت لمدة يومين، يمرحون فيهما، ويستضيف بعضهم بعضاً فرحاً واستبشاراً بما تحصلوا عليه من العلم، وحتى يجددوا نشاطهم ويستعدوا للمستوى اللاحق وفيه يشرع الطالب بحفظ القرآن عن ظهر قلب. عون وحفظ وذكر د.المزعل أن أحمد الصانع -رحمه الله- خصّص كل يوم للطالب عدداً من الآيات يحفظها في بيته، أو خلال اليوم الدراسي، ثم يعرضها على شيخه، وهكذا دواليك إلى أن يتم حفظ القرآن الكريم من أوله إلى آخره، وطلاب هذا المستوى يخصص لهم مكان معين في المدرسة لا يشاركهم فيه باق الطلبة، مما يعينهم على الحفظ، وعادة ما يكون مكانهم أعلى الدرج وما يليه من سطح المدرسة، وكان -رحمه الله- يستعين بكبار الطلبة لتعليم صغارهم، فيجعل صغار الطلبة المبتدئين يقصون ما تعلموه من القرآن على كبارهم، ومن منهجه في معالجة ضعف الطالب، أنه متى تحقق من ضعفه في التحصيل فإنه يوكل به طالباً مُجداً يلازمه ويعينه حتى يحفظ حزبه المطلوب منه، ولا شك أن هذه الملازمة تحدث أثرها في الطالب الضعيف وتكون حافزاً له أن يجد ويجتهد ويدع عنه الكسل -انتهى كلامه-. تاريخ وفاته توفي أحمد الصانع في 15/03/1357ه في مدينة المجمعة -رحمه الله وغفر له وجعل أعماله في التعليم لا تنقطع بعد موته-، ولا زالت مدرسته علم من أعلام مدينة المجمعة يزورها السياح. وأنجب شخصيتنا ذرية طيبة مباركة وهم عبدالرحمن، وكان قد حفظ القرآن وتوفي وهو شاب، وصالح وهو من رجال الأعمال، ومحمد الذي تشرفت بمعرفته وزرته في منزله فوجدت فيه العقل والحكمة والرزانة والاتزان في الشخصية، وقد سمعت عنه الكثير من مكارم الأخلاق والشيم العربية الأصيلة، فكان باذلاً للمعروف لمن يعرف ولمن لا يعرف، محسناً إلى الناس وخصوصاً الأسر الفقيرة، فكان يدعمهم بماله ويسعى بجاهه متوسطاً لهم عند الأغنياء وأصحاب الثراء، ولعلي في أعداد قادمة أتحدث عن سيرة هذا الرجل الكريم، فهو يستحق أن نلقي الضوء على حياته، وهو من رجال الأعمال القدامى في مدينة الرياض. أقدم شكري وتقديري للأستاذ الباحث حمود المزيني على دعمه لي بالمعلومات والصور الباشا أحمد الصانع -رحمه الله- عثمان الصالح -رحمه الله- مسجد ركية ناصر الصانع الذي رمّمه شخصيتنا بدعم مادي من الباشا أحمد الصانع إعداد- صلاح الزامل