في صباح أحد أيام الإجازة الصيفية وبعد أن أنهت ابنتي برنامج موهبة الأكاديمي «طبيب المستقبل» بدت على ملامحها علامات القلق. جلست بجانبي ثم بادرتني بصوت مزج بين الاستسلام والتفكير المنطقي قالت: « بابا، جدي وجدتي مصابان بالسكري أعتقد أن هذا سيكون قدري أيضاً». ابتسمت وقلت «صحيح أن الوراثة تلعب دوراً لكنها ليست القدر، ما نفعله يومياً هو ما يحدد مصيرنا الصحي وليس فقط ما تحمله جيناتنا»! لطالما اعتقد الناس أن الجينات هي التي تكتب مصير الإنسان الصحي، لكن العلم الحديث يقدم رواية أكثر توازناً وإنصافاً. الدراسات المنشورة في دوريات علمية مرموقة مثل Nature Genetics تشير إلى أن الجينات تفسر فقط نسبة تتراوح بين 0-30 ٪ من خطر الإصابة بالأمراض المزمنة مثل السكري وأمراض القلب وارتفاع ضغط الدم. أما النسبة الأكبر فترجع إلى نمط الحياة والبيئة التي نعيش فيها والقرارات اليومية الصغيرة التي تكررها دون أن ننتبه لأثرها التراكمي. الجينات أشبه ببذور نولد بها لكنها لا تنبت وحدها فهي بحاجة إلى «تربة» و»ماء» و»ضوء شمس» وهذه تمثل طعامنا ونومنا وحركتنا وصحتنا النفسية وظروفنا الاجتماعية. العلم قدم لنا كذلك مفهوماً مذهلاً يعرف ب «علم التخلّق» (Epigenetic's) وهو مجال يثبت أن العادات والسلوكيات اليومية يمكنها «تفعيل» أو «تعطيل» بعض الجينات دون أن تغير الشيفرة الوراثية نفسها. ببساطة نمط حياتك لا يغير ما ولدت به لكنه يحدد كيف يتصرف جسدك تجاهه. على سبيل المثال الضغط النفسي المزمن يمكن أن يفعل جينات مرتبطة بالالتهابات، قلة النوم تؤثر على التوازن الهرموني وتقلل من حساسية الإنسولين. في المقابل فإن ممارسة الرياضة بانتظام والنوم الكافي والتغذية الصحية المتوازنة كلها تساعد في إبقاء الجينات المسببة للأمراض «خامدة» وكأنك تسحب منها البطارية. لكن المسألة لا تتعلق بالسلوك الفردي فقط، بل أيضاً بالبيئة والمحددات الاجتماعية. فالصحة لا تعتمد فقط على ما تضعه في طبقك، بل على ما إذا كان ذلك الخيار الصحي متاحاً لك من الأساس. هل توجد مسارات آمنة لممارسة المشي في الحي؟ هل هناك من يشجعك ويشاركك هذا الطريق إذا قررت أن تبدأ رحلة العافية؟ كل هذه التفاصيل التي قد لا تظهر في تحاليل الدم، تصنع فارقاً كبيراً في الحالة الصحية للإنسان. لذا فإن من يسكن في بيئة إيجابية صحية داعمة يملك فرصاً أفضل للوقاية، حتى لو حمل نفس الجينات التي يحملها شخص آخر في بيئة أقل دعماً. في السعودية ولله الحمد التقطت رؤية المملكة 2030 هذا المفهوم الواسع للصحة ولم تعد ترى الصحة مجرد خدمة علاجية تقدم في المراكز الصحية، بل جعلت منها نمط حياة. الصحة أصبحت مسؤولية وطنية تبنى عبر سياسات وقوانين داعمة للصحة وحدائق عامة ومسارات مشي ومراكز رياضية وحتى تقنيات ذكية كتطبيقات الهواتف التي تتابع نومك ونشاطك. أصبحت الصحة مرتبطة بالوعي، بالفرص المتاحة، وبالقرارات التي يتخذها الفرد داخل بيئة داعمة تشجعه. من خلال برامج مثل «جودة الحياة» ومبادرات صحية رياضية مختلفة تعزز النشاط البدني والتغذية الصحية أصبح الطريق نحو الوقاية والصحة النفسية أكثر وضوحاً وواقعية وأقرب من أي وقت مضى. شعرت أن ابنتي مع ما تعلمته في برنامج موهبة الإثرائي الأكاديمي وما ناقشناه، بدأت ترى الموضوع من زاوية جديدة نعم ربما ورثت بعض الجينات التي تزيد احتمال إصابتها بالسكري لكنها فهمت أن تلك الجينات ليست سوى البداية وأنها وحدها من تملك القلم لتكتب النهاية، فالجينات لم تعد تحكم مصيرها وحدها، بل يشاركها سلوكها وبيئتها ووعيها. استمر حديثنا، وبدأنا نفكر سوياً: ما الذي يمكنها فعله في مستقبلها الصحي؟ لم تكن الأمور معقدة كما كانت تتصور مجرد خطوات صغيرة يومية كفيلة بأن تصنع فرقاً عميقاً في صحتها كأن تستبدل مشروباً محلى بكوب ماء، وتمشي يومياً نصف ساعة بدل الجلوس الطويل على الآيباد، أن تنام مبكراً وتستيقظ بنشاط. أن تقلل من الضغوط والقلق بحلول بسيطة مثل التنفس العميق. وأن تتعلم أن تملأ طبقها بخيارات صحية، وأن تتعلم كيف تقرأ الملصقات الغذائية بدل ان تختار بعينيها فقط. أعتقد أنها أدركت حينها أن الصحة لا تحتاج إلى أجهزة متطورة، بل تحتاج وعيا وبيئة داعمة تشجع وتساعد على الالتزام. وأن مصيرها الصحي لا يكتب في المختبرات، بل تعاد كتابته كل صباح على الإفطار وفي كل خطوة تخطوها أو رياضة تمارسها بدلاً من الخمول. في تلك اللحظة نظرت إلى وجهها ولم أعد أرى القلق الذي بدأ به الحديث، بل كان من الواضح أنها عازمة على أن تستعيد السيطرة وبدء قصة صحية تكتبها بوعيها وإرادتها.