تُربكنا النصائح والأحكام المبالغة في عقلانيتها، وتُشوش الرؤية أمام أعيننا.. على سبيل المثال: النصيحة باختيار التخصص الجامعي، بناءً على احتياجات السوق وليس الشغف أو الرغبة، واختيار المهنة بناءً على العائد المادي، وليس الانسجام الوظيفي، أو حتى اختيار شريك الحياة بناءً على جدول مواصفات ومقاييس يخلو من حسابات الحب والمشاعر!، ثم نتساءل بعد ذلك: لماذا تفشل علاقاتنا؟ لماذا يتراجع الإبداع لدى طلابنا؟ ولماذا ينخفض أداء موظفينا؟. الإنسان كائن عاقل، لكنه ليس عقلانيًّا على الإطلاق، لا.. بل هو كائن تُشكّله المشاعر قبل أي شيء، فهو يسعى في كل فعل يقوم به إلى تلبية شعور داخلي أو دفع ألمٍ لا يُرى. نعمل ونكدح لكسب المال بحثًا عن الإحساس بالأمان، نختار ملابسنا بحثًا عن الإحساس بالقبول أو لذّة التفرد، نتناول الطعام لمحاولة سد فراغ الجسد أو خواء الروح، نسافر لنوقظ في دواخلنا دهشةً جديدة تُعيد إحياء إحساسنا بالوجود وتُخرجنا من رتابة الحياة، نُنجز لنُحِسّ بتفوقنا، نتعلّم لنشعر بالمعرفة لا لنمتلكها. الحب.. الزواج.. الإنجاب؟، كلها محاولات مشاعرية للإثبات الاجتماعي، والانتماء، والامتداد، والحب، والهروب من الوحدة.. بناء الحضارات؟ إشعال الحروب؟ حركة الاقتصاد؟ سباق التسلح؟ تؤول كلها في نهاية الأمر إلى الشعور بالأفضلية، والسيطرة، والتفوق، والأمن، والخلود. تشير نظرية ماسلو للاحتياجات بوضوح إلى أن كل سلوك إنساني يرتكز على سُلّم من الحاجات تبدأ بالأمان والراحة الجسدية، ثم تتدرج إلى القبول والانتماء، ثم تقدير الذات والسعي نحو المعنى.. كل تلك الاحتياجات مشاعرية في جوهرها وإن بدت عقلية في ظاهرها. يقول ديفيد هيوم، وهو من أعلام العقلانية الحديثة، إن «العقل عبدٌ للمشاعر»، أما ويليام جيمس فقد رأى أن الشعور ليس مجرد نتيجة للفعل، بل محركه الأصلي، فالإنسان يركض لأنه خائف، لكنه أيضًا يخاف لأنه يركض. المشاعر بدورها ليست نقيضًا للعقل، بل المحرك الأول له، فقد أثبتت الدراسات العصبية التي أجراها، أنطونيو داماسيو، أن المرضى الذين فقدوا قدرتهم على الشعور -بسبب تلف اللوزة الدماغية- يعجزون عن اتخاذ أبسط القرارات، حتى لو كانت صحيحة عقليًّا، فالعقل، بكل منطقيته، لا يتحرك إلا حين تدفعه رغبة شعورية: الفضول، الوصول إلى معنى، الفرار من العجز. ولهذا، فإننا نرتكب خطأً فادحًا حين نُقصي المشاعر من معادلة الاختيار، سواء في التعليم أو العمل أو تكوين الأسرة، إنكار مشاعرنا خيانة لذواتنا، وضج الإنسان لا يُقاس بقدر ما يقمع مشاعره، بل بقدر ما يعيها، ويُصادقها، ويُوجهها بحكمة.