عاد ابني ذات مساء من مقر تدريبه العملي في إحدى الجهات، وقد ارتسمت على وجهه ملامح فرح صامتة لا تخطئها العين. سألته عما حصل، فأجابني بتردد: «قال لي المدير اليوم بعد ما أنهيت مهمتي: يا وحش!». ثم سكت. لم يحتج أن يشرح أكثر. كنت أراه سعيدًا، مرفوع الرأس، وكأنه تلقّى وسامًا من نوعٍ خاص. حينها تأملت قوة هذه الكلمة البسيطة، وتأثيرها عندما تأتي في لحظة إنجاز، ومن شخص في موقع القيادة. كيف أنها تحوّلت في وعي شاب مبتدئ إلى علامة فارقة في تجربته المهنية، وإلى دافع خفي لمواصلة التميز. في عالم الشركات والمؤسسات، قد يبدو للوهلة الأولى أن الكلمات العفوية لا مكان لها في بيئة رسمية تقوم على التخطيط الاستراتيجي والقرارات المؤسسية. ولكن الحقيقة أن بعض هذه الكلمات، إن قيلت في وقتها، قد تكون أبلغ من خطاب رسمي، وأشد أثرًا من لائحة تحفيزية. خذ مثلًا عبارة «يا وحش!"، التي تُقال غالبًا في لحظة انبهار بإنجاز أحد أفراد الفريق. قد تُقال بعفوية، ولكن أثرها عميق ومستمر، بل ويتجاوز إطار المدح اللحظي إلى صناعة بيئة عمل يُحتفى فيها بالتميز، وتُبنى فيها جسور الثقة بين القائد وفريقه. حين يقول القائد هذه العبارة، فإنه يفعّل واحدة من أقوى أدوات التحفيز غير الرسمي: الاعتراف الفوري بالإنجاز بلغة الفريق. وهذه اللغة، بصدقها وقربها من الميدان، تحفر في ذاكرة الموظف أثرًا لا يُنسى. فهو يشعر حينها أن ما قدمه لم يكن عاديًا، وأنه شوهد، وقُدر، واحتُفل به، ليس في لوحة شرف أو خطاب داخلي، بل من خلال كلمة تنتمي لثقافته، وتُحاكي مشاعره. هذا النوع من التحفيز الفوري يتوافق تمامًا مع مبادئ الإدارة السلوكية التي تؤكد أن السلوك الإيجابي يتكرر عندما يُعزز فور حدوثه. ووفقًا لهذا النهج، فإن الكلمات التقديرية البسيطة تُعد محفزات فعالة، خصوصًا إذا أتت من القائد المباشر، لأنها تخلق رابطًا نفسيًا مباشرًا بين الأداء والتقدير. ومتى ما تمكن القائد من التقاط اللحظة الصحيحة للتقدير، وعبر عنها بلغة حقيقية، فقد فعل أقوى أدوات التأثير دون أن يكلّف المؤسسة شيئًا. "يا وحش!" تُحدث مفعولًا مزدوجًا؛ فهي تمنح الموظف شعورًا داخليًا بالفخر والثقة، وفي الوقت ذاته تُرسل لبقية الفريق رسالة ضمنية: إن التميز لا يمر بصمت، وإن الإنجاز مهما كان بسيطًا، يُلاحَظ ويُقدَّر. ومع تكرار هذا النمط من التقدير، تتشكل ثقافة مؤسسية داعمة، يزدهر فيها الأداء، وتخف فيها الحواجز النفسية بين القادة والفرق. وهنا تتجلى أهمية بناء ثقافة تنظيمية قوامها التفاعل الإنساني، واللغة القريبة، والإشادة العادلة. وهي ثقافة لا تُبنى بالتعليمات، بل تُغذى بتصرفات يومية صادقة. لا شك أن الحديث بلغة الفريق ليس مجاملة، بل استراتيجية ذكية لإيصال الرسائل القيادية بلطف وفعالية. فالقائد الذي يستطيع أن يترك البروتوكولات جانبًا، ويقولها بعفوية: «يا وحش!»، هو قائد يفهم أن التحفيز لا يحتاج دائمًا إلى تكلفة، بل يحتاج إلى توقيت وشعور وملاحظة حقيقية. والفرق كبير بين موظف يرى قائده من بعيد، وموظف يشعر بأن قائده معه، يراقبه عن قرب، ويحتفل بإنجازه بلغته، لا بلغة الإدارة الباردة. وفي بيئة تُقاس فيها النتائج، وتراقب فيها مؤشرات الأداء، تظل بعض الأدوات البسيطة أكثر فاعلية من أعقد الأنظمة. فقليل من القادة من يدرك أن الكلمة الصادقة، في لحظتها المناسبة، قد تُحدث أثرًا يفوق قيمة الحوافز المالية. هي ليست مجرد كلمة، بل رسالة انتماء، وشعور بأنك جزء من فريق يُقدرك، وقائد يفهمك، ومؤسسة تحتفل بك. لهذا، حين تسمع في بيئة العمل من قائد لفرد في فريقه: "يا وحش!" لا تبتسم فقط من وقع الكلمة، بل تذكّر أن هذه العبارة البسيطة قد تكون من أقوى أدوات القيادة الحديثة.. لأنها، ببساطة، تصنع أثرًا لا يُشترى، وتترك ولاء لا يُنسى.