اختارت الأممالمتحدة السادس من يونيو، يوماً للاحتفاء باللغة الروسية، وهو اليوم الذي يوافق يوم ميلاد الشاعر الروسي بوشكين. أو لنقل ميلاد اللسان الروسي الحديث الذي شكله بوشكين بروحه الشعرية التي حولت اللغة إلى جسد نابض بالمشاعر الإنسانية. الروسية، قبل أن تصبح لغة رسمية في مجلس الأمن ومحطة الفضاء الدولية، كانت قصيدة، وعزاء لقلوب المنفيين، وهمساً في رسائل العشاق وصرخة في روايات المغضوب عليهم من التاريخ. هذا ما فعله بوشكين حين كتب في منفاه، وما فعله بعده دستويفسكي حين عرى تناقضات البشر في أعمال مثل «الجريمة والعقوبة»، وهو ما فعله تولستوي في «الحرب والسلام» حين جعل الكلمة الروسية سلاحاً ولكن هذه المرة للفهم واليقظة. الأدباء الروس لم يكتبوا فقط نصوصاً روسية، بل كتبوا الألم الإنساني بلغة روسية. وهنا تتجلى المفارقة: كيف للغة تعرف بصعوبة تراكيبها وغموض نبراتها أن تصبح واحدة من اللغات الست التي تتحدث بها الإنسانية في مؤسساتها الكبرى؟ أعتقد أن السر لا يكمن في عدد المتحدثين بها (258 مليوناً حول العالم) بل في الأدب الذي احتضنها ومنحها القدرة على أن تشبه الجميع دون أن تفقد فردانيتها. الروسية بفضل الشعر والرواية والمسرح أصبحت قادرة على حمل المشاعر المركبة التي تعجز عنها الترجمة. احتفال اليونيسكو بهذا اليوم عبر العروض الفنية والدروس المفتوحة والشعر والأدب ليس احتفالاً بروتوكولياً شكلياً، بل هو احتفاء باللغة باعتبارها قناة للروح وسجلاً لألم الإنسان وسعادته، وانعكاساً لصراعاته الداخلية. من جهة أخرى هناك عدد من الآراء التي تتخوف على اللغة الروسية من أن تختزل في السياسة أو توظف كأداة للهيمنة، ويؤكد أصحاب هذا الرأي على ضرورة العودة إلى الأدب، إلى بوشكين ودستويفسكي لا باعتبارهم رموزاً قومية للأمة الروسية ولكن باعتبارهم حراساً للغة الروسية التي يؤكد الروس أنها صالحة لتكون أساساً متيناً للصداقة ومانعة للانقسامات، وذلك عندما تنبض بالشعر بدلاً من الشعارات، وبالمسرح بدلاً من البروباغندا. يذكر أن بوشكين كتب لصديقه تشاداييف من منفاه متحدثاً عن فكرة اللغة التي تصير ملكاً للعالم حين تمسها روح الشعر. في اليوم العالمي للغة الروسية، يحتفي العالم بالكلمة حين تصير بيتاً للمشاعر. وباللغة الروسية كضمير حمل هم الإنسان، وجعل من جمله البسيطة مرآة لفوضى داخلية يصعب وصفها. ذلك إن الأدب العظيم حين يكون جوهر اللغة، يحولها من أداة للتخاطب إلى وطن كبير يسكنه العالم.. عالم قد يردد مع بوشكين: «طويلاً سيظل قومي يحبونني فقد هززت بقيثارتي المشاعر الخيرة وتغنيت ممجداً الحرية في عصري العاتي وناديت بالرحمة على المقهورين».