زار الرئيس الأمريكي، دونالد ترمب، المملكة العربية السعودية قبل أيام في زيارة تاريخية بكافة أبعادها ومدلولاتها ونتائجها. جاءت الزيارة مختلفة عن كل زيارات الرؤساء الأمريكيين سابقًا، وذات أبعاد إستراتيجية وجيوسياسية عميقة. اتسمت بتوافق سعودي أمريكي غير مسبوق، وحملت من خلال تصريحات، دونالد ترمب، اعترافًا كبيرًا بمكانة المملكة ودورها الريادي والعالمي، بوصفها نموذجًا رائدًا للاستقرار والازدهار. أود هنا التركيز على ما ينُم عن تبدُّل النظرة الأمريكية للسعودية، ودول المنطقة بصفة عامة، من خلال مضامين كلمة الرئيس الأمريكي، دونالد ترمب، وما توحي به من توافقات واعترافات بنجاح المملكة في بناء رؤيتها الخاصة ومشروعاتها الوطنية الكبرى، وفق موروثها وقيمها الخاصة. وبداية، أطل، دونالد ترمب، من طائرته الرئاسية يلبس بذلته الرئاسية الفاخرة، وبربطة عنق بلون الخزامى البنفسجي، لتتناغم مع لون سجاد المراسم الملكية، في مشهد يبدو أنه رُتِّب بعناية ليحمل بُعدًا سياسيًا، ورسالة عميقة بأن العلاقات السعودية الأمريكية مترابطة جدًا، وفي أوج متانتها، موحيًا من الوهلة الأولى لوصوله الرياض بتوافقه وتقديره لثقافة البلد وموروثها، وإذ بروتوكوليًا تعد لون ربطة العنق واحدة من أهم الرسائل بين القادة. وكانت القيادة السعودية قد اعتمدت منذو عام 2021ملون زهرة الخزامى البنفسحي، «إحدى أزهار الربيع البرية المنتشرة باللملكة» لونًا رسميًا لسجاد مراسم استقبال كبار ضيوفها، والذي يعكس جانبًا من روح الأرض والبيئة المحلية وثقافة البلد. وصل ترمب للرياض كأول محطة خارجية له منذ توليه الرئاسة في ولايته الثانية، وكانت الرياض محطته الأولى في ولايته الأولى، في زيارته الأولى، كان مشروع رؤية المملكة 2030 في البدايات، خاضعًا لتوقعات متفائل يرى بانتماء عالي إمكانية التحقيق ماثلةً، ومتشائم بعفوية الاعتياد على الراهن، أو متشكك بسوء نية مؤدلجة يتقاصر الهمم ويمدُّ أسباب الاستحالة عجزًا، أو ذرًا للرماد!. يصل ترمب للرياض في زيارته الأخيرة ، وقد تحقق معظم مستهدفات الرؤية السعودية العظيمة 2030 قبل أوانها، فكانت الدهشة الحاضر الأبرز ليُنوه بفرادة المنجز وهو يخاطب الحاضرين من على منصة المنتدى الاستثماري السعودي الأمريكي حين قالَ: «إنَّ السعودية الرائعة بُنيت بأيادٍ سعودية وبثقافةٍ عربية»، لم تكن كلماته تلك في إطار المجاملات البروتوكولية، كانت تمثل اعترافًا لم يسبقه إليه رئيس أمريكي خلال ما يقارب تسعة عقود ماضية هي عمر العلاقات وتبادل الزيارات بين البلدين الكبيرين. اللافت في الأمر أن تصريحه ينم عن فهمٍ أمريكي جديد لما ينبغي أن تكون عليه طبيعةِ العلاقة مع السعودية، التي تذهب صوب المستقبل بخطوات ثابتة وسريعة، ومن دون أن تتخلَّى عن إرثها، وثوابتها أو تنزعَ عباءتَها الضاربة في عمقها الأصيل، جاء ترامب للرياض واعيًا بكون الرياض محطة هامة عربيًا وإقليميًا ودوليًا، ووجهة لكل الساعين نحو بناء معادلة الاستقرار والتنمية، تلك المعادلة الصعبة التي لم تعد شأنًا سعوديًا داخليًا بحتًا في الفكر السياسي السعودي، بل تحوّلت إلى أنموذجٍ تنمويٍ وإصلاحي قابل للتعميم إقليميًا ودوليًا، السعودية التي امتلكت رؤيةٍ إستراتيجية شمولية متكاملة، استطاعت المزج بين الدبلوماسية وقواها الناعمة وفعالية الردع القوي والمتزن، من خلال رؤيةٌ إستراتيجية ثبّتت موقع المملكة الجيوسياسي كدولة ارتكاز تمتلك مشروعًا داخليًا متماسكًا، وبصيرة خارجية نافذة ومرنة، وقادرة على التكيّف مع تبدّل موازين القوى في العالم، والتأثير فيها بدبلوماسية عالية ووعي سياسي كثيف لتجاوز الأزمات المختلفة، بحنكة ورشد بالغين، وبقوة ناعمة تعرف السعوديةجيدًا متى تمدُّ يدًا حانية ووجهًا حازمًا، ومتى تريك وجهًا باسمًا وقبضةً قوية. جاء ترمب ليرسم مسارًا مختلفًا للتعامل مع الحليف الأكبر في الشرق الأوسط، وليُنهي حالة تعميم القيم الأمريكية، فكرة القيم تلك التي حملها الرئيس، بايدن، في زيارته للسعودية إبان رئاسته للولايات المتحدةالأمريكية وفق منطق الهيمنة الأمريكية، وتلقى ردًا حاسمًا من ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان «بأنَّ لكل دولةٍ وشعب خصوصيتَهم»، فالقيمَ لا تُفرض من الخارج، ولا يمكن اختزالها في خطابٍ سياسي. مؤكدًا: «من المهم معرفة أنَّ لكل دولة قيمًا مختلفة ويجب احترامها..»، أوشِكُ أن أقول جاء ترمب كالمعتذر عما سبق ليقول: «نحترم خصوصيتكم.. أنتم تريدونَ الاحترامَ وتستحقّونه»، وفي فقرة عميقة جدًا دالّة واستثنائية، قال: «إن تيار بُناة الأمم الأمريكي، ومن صرفوا عشرات المليارات لفرض ثقافتهم على شعوب العالم، قد خسروا رهانهم، وها هي الشعوب، تصنع نهضتها الشجاعة دون التخلّي عن ثقافتها المحليّة». معتبرًا السعودية مثالاً لذلك وأنموذجًا ناجحًا ومدهشًا، استطاعت المملكة أن تعيد تعريف موقعها في العالم بلغتها الخاصة، ووفق ثقافتها وموروثها التليد وقيمها الراسخة، ومنطقها السيادي المنبثق من ثوابتها الاجتماعية ورؤيتها السياسية، وحرصها على لم الشمل العربي وإنهاء النزاعات ومواقفها الثابتة في مناصرة القضايا العربية والإسلامية. ربما أحتاج هنا إلى التذكير: أن هذا النهج السعودي ليس وليد اليوم، بل منهجية إستراتيجية تبنّاها مبكرًا الملك عبدالعزيز، وتجلت في اللقاء السعودي الأمريكي الأول، الذي جمع الملك عبدالعزيز بالرئيس الأمريكي «فرانكلين روزفلت» في البحيرات المُرّة عام 1945، على متن البارجة «يو إس إس كوينسي»، اللقاء الذي حدد أُطر العلاقة الإستراتيجية بين البلدين، وطبيعة التفاعل مع قصايا الشرق الأوسط. يمكن لمن يريد معرفة تفاصيل هذا اللقاء الشهير الرجوع لمذكرات وليام إيدي، التي نشرها تحت مسمى (F.D،A meets Ibn saud)، وأعطت لمحات نادرة عن هذا اللقاء المهم، أو للكاتبة الأمريكية «راشيل بورنسون»، التي وثَّقت أيضًا اللقاء التاريخي في كتاب لها، تروي فيه القصة بكثير من الإعجاب بالملك السعودي. زيارة ترمب للسعودية تاريخية لها نتائجها الكبيرة على السعودية التي وقعت عقودًا استثمارية تنموية بمئات المليارات لتكرس السعودية كدولة وازنة ورائدة دوليًا في مختلف المجالات، وللزيارة أثرها الإقليمي المنبثق من الثِقل والتأثير السعودي الكبير، وليس أدل على ذلك من إعلان ترمب من قلب الرياض رفع العقوبات عن سورية تلبية لطلب ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، ليفُكّ وِثاق سورية لتنطلق نحو الازدهار، فكانت فرحة الانفكاك تعادل فرح التخلّص من النظام البائد. في هذه الزيارة بدا واضحًا التقاء قائدين عظيمين يطمحان للسلام إذ التقى مشروع المملكة الكبير (رؤية 2030)، التي تُكرِّس في منطلقاتها الداخلية ومضامينها الخارجية وقيمها قيم الأمن والسلم الدوليين، والمضي بالشرق الأوسط نحو السلام ورفاهية الشعوب، وإسكات دوي المدافع وصيحات العصابات المليشياوية، وحرق الأعلام في ميادين العواصم المُختطَفة، وتكريس مفهوم المؤامرة وجلد الذات العربية، والتقوقع في خرائب الحضارة المنسية!. التقى كل ذلك برغبة الرئيس الأمريكي في إنهاء الحروب وإحلال السلم وإنهاء حالة الفوضى والاقتتال في عدة بؤر متأججة في الشرق الأوسط والعالم، ترمب، الرئيس الأمريكي الذي يعمل بلغة الصفقات حتى في قراراته السياسية البحتة، وبفكر رجل الأعمال الذي يعلم أنه لا استثمارات تنموية يمكن عقد صفقاتها على مسمع من دوي المدافع أو تحت رعود المقاتِلات ووعود طائرات الدرون، التقى القائدان الكبيران على لغة واحدة لغة السلم والاستثمار، فكانت الزيارة ناجحة بكل المقاييس، أخيرًا: وصف الرئيس الأمريكي دونالد ترمب ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، هذا القائد الفذّ: ب«الرجل العظيم الذي لا يشبهه أحد»، وكأنه يراه بعيون السعوديين ونبلاء كل العالم.