حين تصف شخصا وتقول إنه لا يمتلك عقلا فأنت تدرك حينها أن هذا الشخص يمتلك الدماغ ولكنه لا يمتلك إدارة العقل الذي يرشده للتصرف الصحيح، ومعنى هذا أنك ميزت بالفطرة أن الدماغ مستقل بحد ذاته والعقل مستقل أيضا، ولكنهما يكملان بعضهما ولا يجوز الفصل بينهما، العلاقة هذه وفكرة من يقود الآخر تشكل واحدة من أعقد المسائل الفلسفية التي واجهت الفكر الإنساني عبر التاريخ. هذا السؤال هو تحدٍ مستمر يتجاوز حدود الفلسفة التقليدية ليندرج ضمن علوم ما وراء الطبيعة والوجود وعلم الإعصاب والنفس، فالعقل والدماغ تنظر إليهما ككيانين متداخلين إلى درجة يصعب معهما التمييز الدقيق، ومع ذلك فإن المفكرين والعلماء على حد سواء لم يتوقفوا عن محاولة فك لغزهما والبحث في طبيعتهما المعقدة، وهل أن العقل مجرد وظيفة ينتجها الدماغ؟، أم أنه كيان مستقل يتجاوز المادة الفيزيائية المحسوسة؟، أم أن العلاقة بينهما أكثر تعقيدا مما يبدو على السطح. الدماغ بالطبع هو الكيان المادي الملموس، المليارات من الخلايا العصبية التي تتفاعل فيما بينها بشكل كهربائي وكيميائي لتنتج ما نعرفه عن الحياة العقلية بداية من التفكير والشعور إلى الإبداع والوعي، لكن الدماغ وحده لا يفسر لنا ما يعنيه العقل، فالعقل كيان يعبر عن التجربة الذاتية والفهم والتفكير المجرد، وهذه أشياء يصعب قياسها أو حتى تحديدها باستخدام الأدوات العلمية التقليدية، وهنا تبرز إشكالية الوعي كأحد أعقد القضايا الفلسفية، إذ إن الوعي يبدو رابطا بين المادة والعقل ومن إنتاج منظومة النشاط الدماغي. حلل بعض الفلاسفة هذا الأمر، حيث قال البعض إن النفس هي التي تعطي العقل القدرة على التفكير والتأمل لكنها لا تفنى بفناء الجسد، وهذا يفتح الباب أمام تصور منظور مختلف للعلاقة بين العقل والدماغ، إذ إن الدماغ هو الأداة الفيزيائية التي تستخدمها النفس لتحقيق وظائفها الفكرية، وهو ما يمكن أن نفهمه اليوم في ضوء العلم الحديث على أنه نوع من الثنائية التي تجمع بين المادة والوعي. وفي حياتنا اليومية يمكننا أن نلاحظ هذه العلاقة بوضوح عندما ننظر إلى تأثير الأمراض الدماغية على التفكير والإدراك، فمثلا بعض الأمراض الدماغية تجبر الإنسان على أن يفقد قدرته على الكلام أو الحركة أو حتى التذكر، وهذا إن دل فإنه يدل على أن الدماغ هو الأساس المادي الذي تعتمد عليه العمليات العقلية، ومع ذلك فإن هذه العمليات لا يمكن اختزالها بالكامل في النشاط الدماغي لأن التجربة الذاتية التي نعيشها أثناء التفكير أو الشعور لا يمكن تفسيرها فقط بوجود إشارات كهربائية وكيميائية بين الخلايا العصبية. الارتباط ما بين الاثنين يصبح أكثر تعقيدا عندما ننظر إلى ظواهر مثل الأحلام أو التأمل، ففي الحلم يبدو أن العقل يتحرر من قيود الجسد والواقع ليخلق عوالم خيالية معقدة، ومع ذلك فإننا نعلم أن هذه الأحلام تعتمد على نشاط الدماغ أثناء النوم بشكل أساسي، أما في التأمل فإن الإنسان يبدو وكأنه يدخل في حالة من الإدراك الأعلى التي تتجاوز النشاط الفيزيائي للدماغ، لتصل إلى تجربة داخلية عميقة مليئة بالمعاني، وهنا يظهر تساؤل: جوهري هل يمكن للعقل أن يعمل مستقلا عن الدماغ؟ إن كل تجربة عقلية هي في جوهرها تعبير عن العمليات الدماغية. عند القراءة في أعمال الفلاسفة المعاصرين نجد أنهم يطرحون إشكالية الوعي بصفتها قضية مركزية في فهم العلاقة ما بين الاثنين، وأن الوعي لا يمكن تفسيره بشكل كامل عبر النشاط الدماغي لأنه يتضمن جوانب ذاتية غير قابلة للتحديد، إلى معادلات كيميائية أو فيزيائية، وهو ما يفتح الباب أمام فكرة أن العقل قد يكون كيانا منفصلا عن الدماغ لكنه في الوقت ذاته يعتمد عليه بشكل عميق لتحديد وظائفه اليومية. وفي نفس السياق لنستحضر مثلا آخر من حياتنا اليومية وهو (تأثير العواطف) على التفكير عندما نشعر بالخوف أو الحزن أو الفرح إلى آخره، هذه العواطف ليست مجرد تجارب ذهنية بل تتجلى أيضا في التغيرات الفيزيولوجية في الجسم، مثل زيادة معدل ضربات القلب أو ارتفاع مستويات هرمونات معينة في الدم، ومع ذلك فإن هذه التجربة العاطفية تحمل معاني أعمق من مجرد التفاعلات الكيميائية، فهي تعبر عن حالات عقلية تعكس فهمنا للعالم ولأنفسنا، وهنا نكون في حيرة، فما الحدود بين ما هو مادي وما هو غير مادي في العلاقة بين العقل والدماغ. وأود أن أبين في مقالي هذا أن العلاقة بين الاثنين ليست مجرد مسألة علمية أو فلسفية، بل هي عملية تمس جوهر وجودنا كبشر، فكل ما نعيشه وندركه ونفكر فيه يعتمد على هذا التفاعل العميق بين الملموس وغير الملموس، وبين الجسد والروح وبين النشاط الفيزيائي والتجربة الذاتية، هذا ما يجعل البحث رحلة فلسفية لا تنتهي تتقصى في أعماق ماهيتنا وتكشف الجوانب الخفية لطبيعتنا البشرية.