مفهوم الإنسانية يعني الممارسات المغلفة بالرحمة والإيثار، وتحقيق النفع ومساعدة الآخرين دون مقابل، وهي سجية الكرام. ويحمل التاريخ الاجتماعي لمدن بلادنا الحبيبة المملكة العربية السعودية خلال قرن مضى صوراً مشرقة من البذل، والعطاء والتكافل الاجتماعي، ولا تزال حتى اليوم، وستبقى إن شاء الله. وكمثال على ذلك " أبها"، هذه المدينة التي كتب عنها المؤرخون وتغنى بها الشعراء، وهام بها الأدباء والكُتاب والمصورون، وغرد لحبها المغردون، لكن القليل ممن تحدث أو لمح إلى أعراف كانت سائدة في العقود الماضية. هذه المدينة التي تماهت مع شيم أهلها آنذاك، وصنعت جسوراً لا تنقطع من الصدقات، تفريج الكربات، إطعام ابن السبيل إقالة العثرات قضاء الديون، فنهل من خيرها كثير من المحتاجين خصوصاً يوم الثلاثاء «السوق الأسبوعي الكبير»، وكذلك في شهري رمضان وذي الحجة والعيدين ومواسم حصاد الثمار والحبوب في المزارع الممتدة على ضفتي واديي أبها وضباعة والروابي المحيطة. ويُعد الدكتور أحمد بن محمد الحميد الأستاذ بقسم السنة وعلومها بجامعة الملك خالد، عميد كلية الشريعة وأصول الدين سابقاً، والأديب والباحث المعروف من أوائل الذين تطرقوا للجانب الإنساني لهذه المدينة رصد بدقة مدهشة تفاصيل جميلة عن الحياة اليومية. ويُحسب له أنه كتب سلسلة مختارة عنها، وكشف جزءاً يسيراً في مسامرة ثقافية خلال شهر رمضان الماضي في بلدة «السُقا» ضمن نشاطات أجاويد. يقول الدكتور الحميد عن بعض الجوانب الإنسانية لمدينة أبها خلال عقود مضت: مظاهر الترابط الإنساني المدفوع بالمباديء الدينية، والأخلاق العربية الأصيلة، تجسدت في منازل الأسر المعروفة بأبها، وكانت مكان إقامة لكل من يأتي للتسوق والعلاج أو قضاء بعض المصالح، وقد تطول الإقامة أو تقصر، فلا يجد الإنسان نفسه إلا واحداً من أبناء المنزل، تُوفر له الخدمات كضيافة كاملة. ولفت إلى أن يوم الإثنين هو موعد استقبال المسَوقة و(اللقاي) فيقصدون بيوت معارفهم، وأصدقائهم للمبيت وتناول طعام العشاء إضافة إلى فطور وغداء يوم السوق الثلاثاء، وهذا يعني أن بيوت أبها يوجد بها أماكن مختصة كمضافة للقادمين طوال أيام الأسبوع. ورصد الدكتور أحمد الحميد صورة أخرى من المآثر الإنسانية المتجذرة، ومن ذلك أن يطلب رب المنزل من النساء، تجهيز كميات كبيرة من أقراص البر والذرة والشعير، ليتم توزيعها بعد انتهاء السوق على عابري السبيل، مع شيء من التمر، وتزداد هذه الأعمال في شهر رمضان. وأضاف، «يعتقد بعض الناس أن صاحب البيت في أبها ميسوراً، وأنه دائماً على مَلاءة مالية فيقصدونه للاستدانة منه، وهو لا يملك طلبهم، وفي نفس الوقت لا يريد ردهم بل يسعى إلى تفريج كرباتهم، فيحملهم إلى بعض التجار، ويُكتب ما أخذوه ديناً على من أحالهم». وأكد الدكتور أحمد الحميد أن التاريخ الاجتماعي يحتفظ لبيوت معروفة في أبها بأعمال خيربة جليلة تجاه الناس، حيث تجتمع فيها أجيال من الجَد والأبناء والأعمام، وبنوهم فتتمثل أعمق المعاني الإنسانية.