تستقبل المملكة العربية السعودية في شهر رمضان ملايين الزوار من شتى بقاع الأرض، يقصدون الحرمين الشريفين بشوق إيماني لا ينقطع، وبتلهف لتلك الأجواء الروحانية الفريدة التي لا تضاهيها أماكن أخرى. ولعل الأحاديث النبوية الشريفة التي تبيّن عظمة الصلاة والعبادة في المسجد الحرام والمسجد النبوي، من أبرز ما يدفع المسلمين للتوافد خلال هذا الشهر الفضيل، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: «عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً». وقال: «صلاةٌ في المسجدِ الحرامِ خيرٌ من مائةِ ألفِ صلاةٍ فيما سواه» ولأن الأعداد تتضاعف خصوصًا في العشر الأواخر، فقد سخَّرت السعودية إمكاناتها وجهودها التوسعية الضخمة لرفع الطاقة الاستيعابية للمسجد الحرام لتصل في أوقات الذروة إلى أكثر من 3.4 مليون مصلٍّ في ليلة 27 وحدها، وفي المسجد النبوي إلى مليون مصلٍّ تقريبًا، وفق تقديرات حديثة. تحديات ميدانية وسط التدفق الإيماني رغم النجاحات الكبيرة في التوسعة والتنظيم، لا تزال بعض التحديات السلوكية والتنظيمية تؤثِّر على انسيابية الحشود وراحة الزوار، من أبرزها: افتراش الأرض والنوم داخل الحرم، ما يعطِّل الحركة ويشوِّه المشهد. إدخال أطعمة دسمة أو تجهيزها داخل الحرم، ما يخلّ بالنظافة والاحترام للمكان. استخدام ماء زمزم لغسل الملابس أو النظافة الشخصية، بدلاً من الاقتصار على الشرب. تبديل الملابس داخل الحرم أو نشرها، وهو سلوك غير حضاري. عدم الامتثال لتعليمات رجال الأمن والمنظمين، وحجز الأماكن للمصلين بطريقة أنانية. هذه التصرفات، رغم كونها محدودة، فإنها تتكرر من زوار من جنسيات معيّنة بشكل لافت، ما أثار استياءً واسعًا على منصات التواصل الاجتماعي، ودفع إلى طرح تساؤلات جادة حول أساليب الحد منها والارتقاء بسلوكيات الزوار. التقنية حاضرة.. لكنها ليست كافية بعد بادرت الجهات التنظيمية بتبني أنظمة ذكية، مثل منصة «بصير» التي أطلقتها «سدايا» بالتعاون مع وزارة الداخلية، والتي تعتمد على الذكاء الاصطناعي لرصد حركة الحشود وتحديد الاتجاهات العكسية والمواقع المزدحمة. ورغم فاعلية هذه المنصة في التنظيم، إلا أن مجال تطويرها لا يزال واعدًا. أقترح أن يُوسَّع نطاق عمل هذه المنصة ليشمل رصد السلوكيات غير المنضبطة، كالنوم أو تجهيز الطعام أو ارتكاب تصرفات تمسّ بقدسية المكان، على أن يتم ذلك بالتعاون مع نظام الكاميرات الحرارية والفرز البصري، مما يسهل توثيق المخالفات واتخاذ الإجراءات المناسبة. حلول واقعية ومقترحات تنفيذية لتحقيق تجربة أكثر تنظيمًا وراحة، أرى أن الحلول الفعَّالة تكمن في الجمع بين الأنظمة الذكية، والتدريب، والعقوبات المنضبطة، عبر حزمة من الإجراءات مثل: التدريب الإلزامي للزوار قبل إصدار التأشيرات، خصوصًا من الجنسيات التي سبق وسجلت مخالفات. يتضمن هذا التدريب شرحًا سلوكيًا وآداب التواجد بالحرم، فرض غرامات مالية مباشرة على المخالفات المتكررة، وقد تصل إلى الترحيل ومنع التأشيرة لاحقًا. رصد مباشر بالكاميرات الذكية وتوسيع دور الذكاء الاصطناعي لتحديد مناطق التكدّس أو التصرفات غير الحضارية. نظام تقييم موسمي للجنسيات: يتم فيه رصد مدى التزام الزوار من كل جنسية، ويُبن عليه منح التأشيرات في الأعوام القادمة. الشباب.. روح التنظيم القادم رؤية ولي العهد الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله- تقوم على تمكين الشباب، وها هنا فرصة حقيقية للاستفادة من العقول الشابة لتشكيل لجان استشارية شبابية تبتكر حلولاً سلوكية وتنظيمية جديدة، مستندة إلى التجارب العالمية في إدارة الحشود. الشباب السعوديون يمتلكون الرؤية التقنية والوعي المجتمعي، ويمكنهم تصميم حملات توعوية ومبادرات ذكية، تُقنع لا تُجبر، وتزرع السلوك القويم لا تفرضه. خاتمة: التجربة الروحانية مسؤولية مشتركة مملكة لم تدّخر جهدًا في خدمة ضيوف الرحمن، من توسعات، وتنظيم، وتقنيات حديثة. ويبقى الدور الأهم على الزائر نفسه؛ فالتزامه وتعظيمه لحرمة المكان هما الأساس في نجاح أي جهد تنظيمي. نحن بحاجة إلى تشريعات ذكية، وعقوبات رادعة، ولكننا أيضًا بحاجة إلى وعي، وتعاون، وشعور بالمسؤولية من كل زائر. فالحج والعمرة والصلاة في الحرمين ليست فقط طاعة، بل تربية روحية وسلوكية يجب أن تنعكس في كل حركة وسلوك. وبالدمج بين التقنيات الحديثة، والرقابة الذكية، والتدريب المسبق، والتمكين الشبابي، سنضمن -بإذن الله- تجربة روحانية آمنة، منظمة، وسامية لكل زائرٍ لبيت الله الحرام والمسجد النبوي الشريف نقلا عن الجزيرة