ترتقي الدول بتجاربها وخبراتها، والقياديون الأفذاذ المميزون الجسورون هم من يصنع هذه الخبرة ويبادرون بالتجربة ويجسدون القيم والتوجهات والرؤى والتطلعات ويقولون بأفعالهم: ''نستطيع'' أن نحقق ما حققه الآخرون، وأن نصل إلى ما وصلوا إليه من تقدم صناعي وتقني وتطور حضاري وثقافي ونضج سياسي واجتماعي. التنمية حالة إيمانية وقناعة بأنه حان الوقت للانتقال إلى مرحلة جديدة وتوجهات تتناسب مع المعطيات على الساحتين الداخلية والخارجية. وللقيادات دور بارز في مهمة التحول بالمجتمع إلى أوضاع تجعله أكثر قوة ومنعة في مواجهة التحديات التي تحدق به من كل حدب وصوب. التحول ليس بالأمر السهل واليسير، لأن تغيير المعتاد والمألوف يتطلب جهدا ووقتا وجرأة وشجاعة في الطرح أولا ومن ثم الإصرار على تبني الأفكار الإبداعية والسير قدما نحو جعلها مشروعا وطنيا وتطبيقها على أرض الواقع. هذه الجهود تندرج في إطار الإصلاح الإداري العنوان الأبرز في المسيرة التنموية التي تشهدها السعودية منذ انطلاقتها على يد الملك الوالد الموحد عبد العزيز بن عبد الرحمن -رحمه الله- فالارتقاء بصناعة القرار الحكومي يمثل حجر الزاوية والعامل الأهم في جميع مراحل بناء الدولة السعودية. والإدارة العامة لا شك أنها مفتاح التنمية ولا يمكن تصور أي نجاح في إدارة المجتمع وتنميته دون تطوير جوهري لنظام الإدارة العامة يتناسب مع المستجدات ويلج بالسعودية إلى عصر جديد. والأمل معقود بعد الله بحساسية النظام السعودي وقدرته على إدراك المتغيرات ومن ثم الاستجابة إليها بفاعلية وكفاءة. التاريخ يؤيد ذلك وشاهد على نجاح القيادة السعودية في جميع مراحل بناء الدولة وتمكنها من تجاوز التحديات والعقبات بعمل الإصلاحات الإدارية المطلوبة وتأدية استحقاقات كل مرحلة. من أبرز القضايا الملحة في عملية الإصلاح الإداري هي تطبيق نهج اللامركزية، الذي يعد الأسلوب الأكثر كفاءة وفاعلية وأثبت نجاحه، خاصة في الدول الكبيرة جغرافيا ذات الكثافة السكانية العالية والنمو الحضري والتنوع الثقافي والتطور الاقتصادي والسياسي. نهج اللامركزية تمليه الظروف والمتغيرات التقنية والاقتصادية والعولمة والمنافسة العالية والانفتاح السياسي والثقافي وتغير أنماط الاستهلاك التي شكلت ضغوطا كبيرة على صانع القرار في الأجهزة المركزية من ناحية، وجعلت القضايا المحلية أكثر تعقيدا وتتطلب حلولا محلية سريعة وفاعلة من ناحية أخرى. ويعزز التوجه نحو تطبيق اللامركزية النضج الإداري والمهني الذي تشهده المحليات، بسبب ارتفاع مستوى التعليم وتوافر الكوادر المؤهلة. إن المتغيرات المتسارعة تجعل من الصعب أو شبه المستحيل التعامل مع القضايا المحلية مركزيا. وهذا يعني أنه أصبح من الضروري منح صلاحيات أكبر لمجالس المناطق والمجالس المحلية والبلدية تتناسب مع حجم مسؤولياتها التي تتعاظم مع مرور الوقت. اللامركزية ستعزز من قدرة السلطة المركزية في الضبط الاجتماعي وليس كما يظن البعض خطأ عكس ذلك. فاللامركزية ستضيق نطاق الإشراف وتحدد المسؤوليات الإدارية والمكانية. أحد أبرز قيادات الإدارة المحلية خبرة وحنكة وقدرة على وصف التجربة الإدارية الأمير خالد الفيصل. وقراءة سيرته الذاتية الثرية وما أنجزه على الأرض يؤكد تميزه برؤية واضحة وخطة عمل لما ينبغي عمله لتطوير العمل المحلي. وإيمانه الشديد بالدور التنموي للإدارات المحلية وراء اندفاعه وحماسه في تفعيل العمل المحلي على الرغم من العوائق الإدارية والمالية والتنظيمية التي تعترض تطلعاته في تحسين الأداء. ومبادراته منذ توليه الإمارة في عسير في بداية السبيعينيات من القرن المنصرم وما قدمه من أفكار ومشاريع إبداعية في منطقة مكةالمكرمة جميعها تصب في بناء القدرات المحلية وتحفيز التنمية المحلية بجهود ذاتية. الأمير خالد الفيصل كنز من الحكمة الإدارية وخبرة. الحديث عن الأمير خالد يأتي من منطلق أنه يعرف عن كثب كقيادي متمرس أن الإدارة المحلية هي جذور التنمية الوطنية وصمام الأمان، وأن جميع القضايا على المستوى الوطني خرجت من رحم المجتمعات المحلية، وأنه لو قدر أن مكنت الإدارات المحلية من وأد تلك المشكلات في مهدها لما تحولت إلى طود عظيم يستنفد المال والجهد والوقت. ولإدراكه هذا الدور المهم للإدارة المحلية يشير إلى أن حجم المسؤولية التي تقع على إمارات المناطق ومسؤوليها كبيرة، وبحكمة المطلع على أبعاد العمل المحلي يرى ضرورة العمل في ظل الممكن مع قناعته بأهمية توسيع صلاحيات وأدوار الإدارة المحلية، فها هو بشفافيته المعهودة يتحدث إلى أمناء مجالس مناطق السعودية في اجتماعهم بلغة واضحة ومباشرة: ''نحن الجهة المشرفة (مجلس المنطقة) على كل ما يجري في المنطقة، ولعلكم تحفظون جميعكم مواد نظام المناطق، الذي يتضمن صلاحيات أمير المنطقة ومجلسها، والكثير يطالبون بتعزيز الإدارة المحلية، وهذا أمر مطلوب، لكن أؤكد لكم أن من يريد العمل فسيجد بالنظام ما يمكّنه من ذلك، كما سيجد من يريد الراحة الفرصة لإلقاء المسؤولية على الوزارات وتحميل المالية اللوم''، وبحس مهني يؤكد ''أهم ما كنا نسعى إليه... هو وضوح الرؤية، أن نعرف تماما ماذا نريد، وكيف نريد الوصول إليه، وكم المدة الزمنية التي تلزمنا للوصول إليه''. ليس ذاك فحسب، لكنه فطن إلى تطوير جهاز الإمارة ليكون قادرا على إنفاذ الاستراتيجية يقول: ''رأينا أهمية أن نبدأ بأنفسنا وأن نرتب بيتنا الداخلي أولا، فلا يمكن أن نبدأ بإصلاح ما حولنا إلا بعد إصلاح أنفسنا وبيتنا، وهو إمارة منطقة مكةالمكرمة (''الشرق الأوسط'' 3 أبريل 2012 العدد 12180). هذا التوجه الإصلاحي نابع من خبرة ونهج وفلسفة ترتكز على الجانب الإنساني في العمل الحكومي وهو تحقيق تطلعات المواطنين وإحداث التأثير المطلوب، وهذا ما ينبغي لإنجاح مشروع الإصلاح الإداري. لذا يجسد خالد الفيصل بأطروحاته وأفكاره وقراراته ومشاريعه التي تحكي واقعيا ماذا علينا فعله، وتلفت الانتباه إلى أهمية العناية بالإدارة المحلية. وربما اختزل بيتا من شعره فلسفته: أنا إنسان مع نفسي قبل لا أكون معاك إنسانا.. ولي مبدأ ولي نظرة وتحكمني قناعاتي. نقلا عن الاقتصادية