بعد أسابيع من الجدل، اتفقت الأحزاب السياسية الرئيسية في بريطانيا على إنشاء هيئة جديدة لتنظيم عمل وسائل الإعلام من خلال «ميثاق ملكي» مدعوم بتشريع قانوني. لكن الخطوة التي تأتي تلبية لتوصيات لجنة القاضي ليفيسون التي نظرت في تطفل وسائل الإعلام على خصوصيات المواطنين، أثارت مخاوف لدى الصحف من المسّ بالحريات التي تمتعت بها طوال السنوات ال318 الماضية، بعيداً من أي إشراف من السياسيين على فحوى ما تكتب. وبدا الاتفاق الذي توصل إليه قادة أحزاب المحافظين والعمال والديموقراطيين الأحرار (على التوالي ديفيد كاميرون وإد ميليباند ونيك كليغ) بمثابة حل وسط لما يريده كل منها. فحزب المحافظين لا يريد تشريعاً قانونياً يسنّه السياسيون لتنظيم عمل وسائل الإعلام، كي تبقى الرقابة ذاتية من الإعلاميين أنفسهم لئلا يُمَس بحرية الصحافة. وحزب العمال يريد تشريعاً قانونياً لذلك، ويؤيده في ذلك حزب الديموقراطيين الأحرار، الشريك الأصغر في الحكومة الائتلافية التي يقودها المحافظون. ولذلك ظهر وكأن الاتفاق يجمع بين هذه الرغبات المختلفة للسياسيين: إنشاء هيئة جديدة لتنظيم عمل سائل الإعلام من خلال «ميثاق ملكي» صادر عن الملكة إليزابيث الثانية وليس البرلمان. ولا يحق تعديل مواد هذا الميثاق مستقبلاً، إلا بموافقة غالبية الثلثين في مجلسي العموم واللوردات. ويوضح حزب المحافظين أن الاتفاق بين الأحزاب الثلاثة لا يتضمن ما يُعرف ب»الأسس القانونية» لتنظيم الصحافة، لأن التشريع الذي سيصدر لدعم «الميثاق الملكي» لن يكون بمثابة «قانون جديد» يذكر بالاسم الصحافة أو هيئة التنظيم الجديدة لعمل الصحافة، ما يعني أن وسائل الإعلام هي التي ستنظم ذاتها بذاتها، وليس بنص قانوني من خارجها. ويوضح رئيس الحكومة أن تغييرين «صغيرين» سيجرى فقط إدخالهما على التشريعات الحالية. التغيير الأول يتعلق ب»قانون الجريمة والمحاكم» الذي سيُعدَّل في شكل يجعل «من مصلحة» ناشري وسائل الإعلام أن ينضموا إلى الجسم التنظيمي الجديد تحت طائل التهديد بعقوبات، علماً أن الصحف المحلية في الأقاليم البريطانية لا تريد ذلك لأنه يفرض عليها تكاليف مالية للمساهمة في إدارة هذا الجسم الرقابي الجديد، فيما لا ترتكب مخالفات جسيمة كتلك التي وقعت بها الصحف الوطنية في السنوات الماضية. أما التعديل الثاني الذي تحدث عنه كاميرون فيتعلق بتعديل «قانون المؤسسات والإصلاح التنظيمي» الذي لن يذكر مباشرة الصحافة أو الجسم الرقابي الجديد عليها، لكن سيتضمن نصاً على أن «الميثاق الملكي» لا يمكن تعديله سوى بغالبية الثلثين في مجلسي البرلمان. ويرى حزب العمال إن الميثاق الملكي الذي سيصدر لتنظيم عمل الصحافة يعني وجود نص قانوني يمنع «تلاعب» السياسيين أو الإعلاميين بالجسم الذي سيشرف على الرقابة الذاتية لوسائل الإعلام. وأقر زعيم الديموقراطيين الأحرار بأن الاتفاق هو بمثابة «طريق وسط»، لكونه يُنشئ هيئة للإشراف تكون «مستقلة ولها القدرة» على حماية حرية الصحافة، وفي الوقت ذاته خدمة المواطنين البريطانيين أنفسهم الذين يمكن أن تسيء إليهم وسائل الإعلام من خلال تدخلها في خصوصياتهم أو الإضرار بهم.
ميثاق... وتوصيات ويُعد «الميثاق الملكي» وثيقة رسمية تصدر عن الملكة، وليس عن البرلمان، وتحدد الأسس التي تقوم عليه مؤسسة ما. ويُستخدم «الميثاق الملكي» عادة لإنشاء جمعيات خيرية أو مؤسسات محترفة، مثل الجامعات و»هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي). وجاء الجدل في شأن طريقة تنظيم عمل وسائل الإعلام على خلفية تقرير «لجنة ليفيسون» التي نظرت منذ خريف عام 2011 في ممارسات وأخلاقيات الصحافة بعد فضيحة صحيفة «نيوز أوف ذا وورلد» التي تبيّن أنها كانت تتنصت في شكل غير شرعي على الحياة الخاصة لبعض السياسيين وشخصيات المجتمع وحتى عامة الشعب. وأوصى تقرير ليفيسون بإنشاء جسم جديد لممارسة التقييم الذاتي على عمل وسائل الإعلام، على أن يكون الجسم مستقلاً عن المسؤولين الحاليين عن وسائل الإعلام، وكذلك عن الحكومة ورجال الأعمال. ولم يجد تقرير اللجنة فساداً متفشياً في الشرطة نتيجة ارتباط بعض ضباطها بوسائل الإعلام، لكنه وجد أن السياسيين والإعلاميين كانوا على علاقة وثيقة جداً ببعضهم بعضاً أحياناً، ما يؤثر في حقيقة الدور الرقابي لوسائل الإعلام على السياسيين. ونصت توصيات لجنة القاضي ليفيسون على أن الجسم الصحافي الجديد الذي سيمارس التقييم الذاتي يجب أن يلعب دوراً فاعلاً في تعزيز المعايير العالية لطريقة عمل وسائل الإعلام، بما في ذلك منحه سلطة التحقيق في الخروق الخطيرة التي ترتكبها الصحف، وفرض عقوبات عليها يمكن أن تصل إلى مليون جنيه استرليني. وهذا الجسم الجديد يجب أن يكون «مدعوماً بتشريع» قانوني مصمم لضمان أنه يقوم بمهمته الرقابية، أو الإشرافية، على أكمل وجه. ويوصي تقرير ليفيسون أيضاً بإنشاء نظام تحكيمي (مجاني) يتيح للناس الذين يقولون إنهم ضحية وسائل الإعلام أن يسعوا إلى الحصول على تعويض أو جبر ضرر من دون المرور بالمحاكم، التي عادة ما تكون مكلفة. ويقترح تقرير اللجنة أيضاً إنشاء «خط ساخن» للصحافيين الذين يريدون الإبلاغ عن ضغوط تمارس عليهم للقيام بتصرفات «غير أخلاقية»، مثل التنصت على هواتف الناس. وثمة من يرى مشكلة في الميثاق الملكي الجديد، إذ أنه يعرّف ناشري الأخبار بأنهم الصحف والمجلات ومواقع الإخبار على الإنترنت التي تنشر مواضيع إخبارية، ما يعني أن بعض مواقع الإنترنت ليس مشمولاً بالميثاق، حتى ولو نشر أخباراً في حال كان عملها ليس متخصصاً في جمع الأخبار. وبدت غالبية الصحف البريطانية حذرة في التعامل مع الاتفاق الذي تم بين قادة الأحزاب السياسية. وعبّرت جريدة «صن» الشعبية عن ترحيب جزئي لكون البرلمان لم يتدخل لفرض «السيناريو الأسوأ» وهو الرقابة المباشرة من السياسيين على عمل وسائل الإعلام. أما ال»تايمز» فكتبت أن دور الصحافة الحرة هو محاسبة الحكومة على ما تقوم به، وليس العكس. واعتبرت ال»تلغراف» أن من المبكر إعطاء موقف في ظل عدم وضوح كيف يمكن أن يكون «الميثاق الملكي» المخصص لإنشاء هيئة تشرف على تنظيم عمل وسائل مدعوماً بتشريع قانوني ليس فيه ذكر للصحف ولا للجسم الذي سينظم عملها. وأضافت أنه بعد 318 سنة من حرية الصحافة، فإن مثل هذا القرار يحتاج إلى تفكير عميق. أما «دايلي ميل»، فلفتت إلى أنه كان يُفترض بالسياسيين أن يعملوا على تنشيط الصحف المهددة بانتشار مواقع الإنترنت بدل المساهمة في دق مسمار جديد في نعشها.