كل شيء ممكن أن أفهمه وأتعايش معه بسلام إلّا أن تكون (الوطنيّة) بجلال قدرها عبارة عن مادة في كتاب مهمل يدرّس للطلبة على استحياء ويُلخّص لهم بصفحتين ويستفاد منها لإكمال نصاب معلّم (فاضي)، فإما أن تُعامل الوطنيّة كمادة محترمة وتنجح في غرس القيمة التي أوجدت من أجلها، أو أن إكرام الوطنيّة دفنها، فكل ما تتعرّض له هذه المادّة بالذّات يوحي أنه لا أهمية لها تماماً، كالرّسم والرياضة في مدارسنا مجرّد حصص للرّاحة وليس للفن ولا للتعلّم ولا للتربيّة! فمع ما يلفّ الوطنية كمفهوم من أحاديث بأصوات منخفضة تتعالى أحياناً ليُسمع صداها هنا وهناك، إلّا أن الحقيقة تقول إن المصطلح له محبون وكارهون وله أصدقاء وأعداء أيضاً، وهذا ليس بخفي على أحد، فنحن نسمع كثيراً أن الوطنيّة مصطلح غير شرعي، وأنها دعوة جاهليّة، ونسمع ما هو أبعد من ذلك فقد تردد كثيراً أيضاً أن المقصود بالعلم هو العلم الشرعي، وأن الأمّة ليست بحاجة لهذه (العلوم الدنيويّة) التي لا خير فيها، وطبعاً يقصد بالعلوم الدنيوية الرّياضيات والطب والهندسة وبقية العلوم، فكيف إذاً بتلك المسكينة غير الشرعيّة المنشأ التي تدعى مادّة التربية الوطنيّة؟! تكمن حساسية مفردة الوطنيّة أنها تلتصق بشكل مباشر في كل من الوطن والمواطن وبدونهما لا تعيش، وهي تنبع منهما وإليهما في تعبير وجداني مرتبط في النفس والأرض معاً وفي آن واحد، وتحاول أن تسمو بالعلاقة بينهما إلى حد التماهي بدلالات إنسانيّة خالصة، وتتبعها دلالات اجتماعية وسياسية معقّدة، وهي -بنواياها الطيّبة- قد تصطدم بالكثير من العوائق والطرق الشائكة وحقول الألغام أيضاً. فالوطن والمواطن مفردتان غريبتان ولم يردا ذكراً صريحاً في القرآن الكريم ولا السنّة النبويّة. فما هو الوطن؟ ومن هو المواطن؟ سؤالان وإن بدت سهولتهما في الوهلة الأولى إلّا أنه وبما يحيط بهما من آراء واختلافات فلن تستطيع مادّة تدرّس عن غير قناعة أصلاً وعلى استحياء أن تجيب عليهما بوضوح ولا التعاطي معهما بعمق! وكعادتنا المحبّبة نمارس التعامي عن هذه الإشكالية في مفهوم الوطنية، إلى أن تفرز أزماتها ثم تتعالى الأصوات وتتطاير في كل مكان، ونتعامى عن الوطنيّة كقيمة غير متعارضة مع القيم الأعلى والأسمى، وتنشأ مع الإنسان في أي أرض يكون، فالوطنية وبعيداً عن إشكاليات المصطلح هي قيمة وجدانية يدركها الجميع ويشعر بها ويمارسها رغبة منه في التعبير عن الحب والانتماء، ويجب أن لا تبقى الوطنيّة مجرّد كتاب صغير في منهج دراسي يصاب بحمرة الخجل وهو يتحدث عن جغرافيا الوطن، وما إن ينتهي الدرس حتى تتمدد الأفكار وتطير إلى ما هو أبعد! وبما أن مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني هو مركز للحوار الوطني أولاً وأخيراً، فعليه أن يفتح حواراً جاداً وصريحاً ووطنياً عن: ما هي الوطنية؟ حتى لا يضيع أبناؤنا الطلبة بين ما يقدّم لهم على استحياء عن الوطنيّة وبين ما يُقال لهم صراحة إن الوطنية دعوة جاهليّة!