«لا تصالح ولو منحوكَ الذهب لا تصالح على الدمِ حتى بدم! أكلُّ الرؤوس سواء؟ أقلبُ الغريب كقلب أخيك؟ أعيناهُ عينا أخيك؟ أترى حين أفقأُ عينيكَ ثم أثبتُ جوهرتينِ مكانهما هل ترى؟ هي أشياءُ لا تُشترى!!». سلاماً أيها المصريُّ الأسمر، كيف لك هذه القدرة على اختصار الحياة في كلمات؟ على جمع السنين في إطار؟ على تكثيف اللحظة لتصيرَ قروناً في حساب الذاكرة والشعور؟ (هي أشياء لا تُشترى): في هذه الجملة الشعرية تكثيفٌ مميز ونوعٌ من البيان رفيع، ونمطٌ عالٍ من الأساليب التي لا تتكرر في الأدب إلا قليلاً، وهي بكلماتها الثلاث تأخذ النفسَ إلى دروب بعيدة في صحراء التأمل، وتفتح للذهن آفاقاً واسعة، وتطير به بجناحين من عاطفة وخيال! (هي أشياء لا تُشترى) ما هي هذه ال(هي): ربما كانت ضميراً غائباً حاضراً يحمل التفخيم والقوة والغموض والوضوح والبعد والقرب في وقت واحد! وما هي أشياؤك يا فتى النيل؟ ستكون كل الأشياء التي لها في النفس ما لها من معاني القرب والاعتزاز والمحبة والكرامة والتقديس، إنها من الكثرة حتى يعدّها عادّ، ومن القلة حتى لا تخفى على أحد، إن اختصرتها فقل هي الكرامة وما يمسها والذات وما تقدّسه! وإن بسطتها فقل هي كرامة الآدمي وأرضه وأهله وترابه وعرَقُه ورأيه، وفكرته التي عالجها، ووطنه الذي أراده، ومشاعره التي أحسّها، وذاكرته التي أرهقها، وضحكة أطفاله، ورضا والديه، وسمَر أحبابه، وقل في نفسك ما تشاء مما لا يُشترى! هل أنا أحلل القصيدة الآن؟! أم كنتُ أتحدث مع نفسي؟ أم إنني أكتب مقالاً في «الشرق»؟ لستُ أدري! ولكنّ هذا النصّ عصيٌّ على التحليل المدرسي والهذيان المؤقت، وهو عصيٌّ على المقالة الأدبية ومساحتها! لقد كانت قصيدة الشاعر «أمل دنقل» صرخةً مدوية في الاحتجاج السياسي، ولعلّنا نحتاج إلى أن نجعل منها أو من هذه الجملة الشهيرة لافتة أمام أنفسنا لنتفكّر قبل أن نبيع!! وأنتَ -أيها القارئ- ترى في خضمِّ ما ترى بشراً ليس لهم من ضميرهم رادع، ولا لهم في ذواتهم عِزّة، هانت عليهم أنفسهم فباعوها على أول شخصٍ أو مؤسسة تسألهم: بكم البيع؟! وإني أحسبك ترى -كما أرى- شخصيات مللنا من سحنة وجوهها من كثرة ما عُرضت في الشاشة، باعوا شيئاً من تلكم الأشياء ولبسوا بثمنها عمامة الشيخ أو كرفتّة المثقف، والحمد لله على قضائه وقدره! هنيئاً أيها الإنسان الإنسان، هنيئاً لك يا من لا تزال مؤمناً بأشيائك الثمينة!