قبل أيام كنت أستمع إلى إسطوانة قديمة من إسطوانات الفنان اللبناني (مارسيل خليفة) وأعادتني أغانيه القديمة تلك إلى سوريا في ثمانينيات القرن الماضي، حيث كان مجرد الاستماع إلى مارسيل خليفة والشيخ إمام وفرقة العاشقين وفرقة الطريق ولاحقاً مسرح زياد الرحباني وكل ما ينتمي وقتها إلى ما كان يسمّى (الفن الملتزم ) ، يعني الانتماء إلى شريحة اليسار المناضل والثوري والمناهض للأنظمة الديكتاتورية وللرجعية اليمينية المتحالفة مع هذه الأنظمة والمؤيد بشدة لمفهوم الصراع الطبقي الذي كان هو المصطلح الوحيد السائد عن الصراعات المجتمعية قبل أن يتم استبدال حركات التحرر الوطنية بأحزاب وتنظيمات دينية ومذهبية راديكالية بدعم مخابراتي عربي وغربي وموسادي بوقت واحد . من ضمن أغنيات هذه الإسطوانة ثمة أغنيتان عن الأطفال، واحدة غنتها أميمة خليل وواحدة بصوت مارسيل نفسه، أغنية أميمة هي (يا معلمتي إجا الديب) ولمن لا يعرفها فهي عن مجموعة أطفال يتحدثون مع مدرستهم عن الذئب القادم ليأكلهم وهي تشجعهم وتعلمهم كيف يحملون السلاح لمقاومة الذئب! الأغنية التي بصوت مارسيل هي (كان في مرة طفل صغير عم يلعب بالحارة ) وهي عن طفل يلعب بطائرته الورقية حين اخترقت السماء طائرة حربية ورمت قذائفها وقتلت الأطفال الذين كانوا يلعبون !! الأغنيتان فيهما خوف صريح على الأطفال وفيهما تنديد باستهداف الطفولة من قبل (الذئب) الذي لم تحدده كلمات الأغنيات من هو ، هو قاتل للطفولة التي هي المستقبل ، وبالتالي هو قاتل للمستقبل ولهذا يجب فضحه وتجب مقاومته بكل الطرق بما فيها تعليم الأطفال استخدام السلاح للدفاع عن أنفسهم للوقوف بوجه هذا (الذئب الغادر) كما يسميه مارسيل خليفة في أغانيه. مارسيل خليفة وقتها كان ينتمي للفكر اليساري وكان منخرطاً في الحركة الوطنية اللبنانية ومع مقاومتها التي كانت تضم الأحزاب اليسارية والعلمانية وقتها، كانت إسرائيل هي العدو الأول للحركة مثلما كانت الأنظمة العربية الديكتاتورية بما فيها نظام حافظ الأسد في سوريا ، ومع القضاء على تلك الحركة الاستثنائية في التاريخ العربي واستبدالها بحركات مقاومة دينية ومذهبية ( حركة أمل وحزب الله بدل الحركة الوطنية اللبنانية ، وحركة حماس والجهاد الإسلامي بدلاً عن فتح والجبهة الشعبية ) ودعم نظام الأسد المطلق لهذه الحركات الدينية وضعف دور اليسار العالمي والعربي بعد سقوط الاتحاد السوفيتي ثم وضع العالم كله بين ثنائيتين (أمريكا بكل ما تمثله أو القاعدة وفكرها الجهادي بصفتها ممثلاً عن الإسلام ) بعد أحداث الحادي عشر من أيلول ، مع هذه التحولات العالمية والإقليمية كلها ، تحول انحياز اليسار العربي ومثقفوه وفنانوه من انحياز لحركات مقاومة علمانية إلى انحياز للمقاومة الإسلامية رغم الخلل الذي قد يمكن أن يظهر في ذلك ، فمن أقصى اليسار إلى أقصى اليمين ، ولكن كان الهدف الأول والذريعة المعلنة أنها مقاومة لإسرائيل ولمشروعها التوسعي ولرغبتها في السيطرة على المستقبل العربي أو القضاء عليه ، ومقاومة لأمريكا ودعمها المتواصل لإسرائيل، وهذا استلزم أيضاً انحيازاً للنظام السوري الذي فرض وجوده القومي عبر عنوان (دعم المقاومة)، ومع بدء الثورات العربية وقف اليسار العربي كله مسانداً لها إلى حين انطلاق الثورة السورية ، الثورة التي كما يصطلح السوريون على تسميتها (كاشفة عورات الجميع ) حيث انقسم هذا اليسار بين صامت تماماً وبين مؤيد لنظام الأسد ، قلة قليلة فقط منه من أيدت الثورة حافظت على تأييدها لها رغم كل شيء ، ومع انكشاف إجرام النظام وطائفية مشروع حزب الله ونقل معركته من إسرائيل إلى الأراضي السورية واشتراكه بقتل السوريين بشكل علني ، وتغاضي النظام السوري وحزب الله عن القصف الإسرائيلي للمواقع السورية العسكرية وتلك الخاصة بحزب الله والتصريح من قبل الاثنين بأن الرد سيكون في الوقت المناسب وقتل مزيد من السوريين بما فيهم الأطفال واستخدام حزب الله لخطاب طائفي واضح وصريح ويثير القرف ، مع كل ذلك يصمت مثقفو اليسار العربي وفنانوه عن كل هذا ويصمتون عن مئات الآلاف من الأطفال الذين يقتلون في سوريا وملايين الأطفال المشردين والمتعرضين لكل أنواع الذل والقهر والخوف والجوع والبرد ، يصمت هؤلاء عن كل ما يحدث ، وكأن دورهم ينحصر فقط في إدانة إسرائيل حينما تقتل طفلاً عربياً ، أما هذا القتل اليومي للمستقبل السوري من قبل نظام الأسد وحلفائه فهذه وجهة نظر سياسية ، أما الأخلاق والضمير الإنساني فيبدو أنهما مبيعان منذ زمن طويل جداً لدى هؤلاء ، بالعودة إلى مارسيل خليفة ، أتساءل أحياناً : حين يخطر له أن أعود للاستماع إلى أغنيتيه السابقتين (يا معلمتي وكان في مرة طفل صغير ) ويحدث في سوريا ما يحدث، ما الذي يخطر بباله وكيف يمكنه احتمال الصمت وكيف ينظر إلى تاريخه النضالي ؟! هي أسئلة إسقاط الوهم ، الوهم الكبير الذي عشنا به نحن السوريين طويلاً وانكشفت حقيقته أمامنا وأفرغت علينا بانكشافها كل هذه المرارة.