ينقل عن العالم (سومرست موم) قوله عن العلم: إن العلم كائن متقلب فهو ينفي اليوم ما أثبته بالأمس، وهو سيثبت غداً ربما ما نفاه اليوم، فهو لا يثبت على حالة واحدة وعباده دوماً في قلق مستمر. هذا المقولة تمثل تياراً غير يقيني في التعامل مع العلم، فهل العقل مهزلة كما وضع الكاتب علي الوردي هذا عنواناً لأجمل كتبه؟ أم إن المعرفة مستحيلة؟ أم إن العلم كائن هلامي يستحيل القبض على أي تماسك في محتوياته؟ ولكن ما هو العلم على وجه التحديد؟ عندما كنت طالباً في كلية الطب درسنا الإنسان في أربعة أبعاد، درسناه كجغرافيا وطوبوغرافيا وهو علم التشريح، ودرسناه كحركة وهو علم الفيزيولوجيا (علم الغرائز)، ودرسناه كتركيب وهو علم الأنسجة، ودرسناه كتاريخ وتغير وهو علم الأجنة والباثولوجيا (علم الأمراض) وعلم النفس وأمراضها. لفت نظري في علم الفيزيولوجيا في بحث أثر الماء في الحياة، أن المدرس استخدم نصف آية من القرآن الكريم حركت عندي شهية البحث لمدة سبع سنوات كاملة، تفيد حقيقة علمية (وجعلنا من الماء كل شيء حي) وكان استخداماً موفقاً وفي مكانه، ولكنه توقف عند نهايتها التي تمثل مصب الماء المعرفي، أو ما يعرف حالياً بالابستمولوجيا (EPISTEMOLOGY) أي فلسفة العلوم أو علم العلوم أو الدراسة النقدية للعلوم، وكانت النهاية (أفلا يؤمنون). اضطر العلم في النهاية لتأسيس قاعدة صلبة له فطوَّر علما جديدا هو فلسفة العلوم، وهي طريقة الزاوية المفتوحة في فهم الوجود عند سقراط، حيث تشكل الإجابة عن سؤال، فتح الباب لسؤالين جديدين، والإشباع المؤقت له لا أكثر، ليضع العقل سؤالاً جديداً، وهكذا بلا نهاية، في قنص سلسلة من الحلول، وخرق فضاءات معرفية دون توقف، وتأسيس وتوليد علوم جديدة، في حركة نهم ونمو معرفي، لا يعرف الحدود أو الاستقالة أو الإشباع. ولكن البداية التي لا مفر منها هي ما هي أسئلة العلم الكبرى؟ هذا الكون المعقد المتشابك الذي يحيط بنا ما هو تكوينه؟ ما هي طبيعة حركته؟ لماذا يتغير دون توقف؟ هل له طريقة في التعامل؟ هل يقوم على الفوضى واللاسننية؟ أم له قوانين تنتظم حركته؟ ما هي طبيعة هذه القوانين إن كانت موجودة؟ هل يمكن فهم الكون أم إن المعرفة مستحيلة؟ من أين جاء؟ هل له بداية؟ هل له غاية؟ هل هو مبرمج؟ وإذا كان مبرمجاً فما هو فحوى برنامجه؟ ما هي طبيعة الصيرورة التي تغلف حركته؟ لماذا كان الجمال مركزياً في الكون في كل شيء ومكررا ومعاداً؟ هل يقوم الكون على العبثية واللامعنى؟ أم له معنى؟ هل هو مرشح للديمومة والأزلية أم إنه معرض للانهدام والفناء والانحلال والنهاية التي هي ضرورة منطقية لكل بداية؟ ما هي الحياة؟ لماذا اقترنت بالموت؟ لماذا تطمح النفس إلى الخلود والصحة والشباب؟ هذه الأسئلة وغيرها تمثل ضغطاً ساحقاً على العقل لا يستطيع التملص من قبضتها للإجابة عليها؟