«استمطار السحب»: 415 رحلة استهدفت 6 مناطق العام الماضي    اليوم الجمعة .. نهائي كأس العالم للترويض    الطائي يصارع الهبوط    أقوال وإيحاءات فاضحة !    «المظالم»: 67 ألف جلسة قضائية رقمية عقدت خلال الربع الأول من العام الحالي    ذات الأكمام المفتوحة نجمة الموضة النسائية 2024    «طافش» تواجه حكماً بالسجن 4 سنوات !    الفقر يؤثر على الصحة العقلية    مشاهدة المباريات مع الجماهير ترفع الشعور بالرفاهية والانتماء    تخلَّص من الاكتئاب والنسيان بالروائح الجميلة    مصر تأسف لعدم منح عضوية كاملة للفلسطينيين في الأمم المتحدة    الاحمدي يكتب.. العمادة الرياضية.. وحداوية    سلطان البازعي:"الأوبرا" تمثل مرحلة جديدة للثقافة السعودية    مقتل قائد الجيش الكيني و9 ضباط في تحطم مروحية عسكرية    "أيوفي" تعقد جلسة استماع بشأن معايير الحوكمة    مجلس جامعة جازان يعيد نظام الفصلين الدراسيين من العام القادم    أمير الرياض يعتمد أسماء الفائزين بجائزة فيصل بن بندر للتميز والإبداع    تَضاعُف حجم الاستثمار في الشركات الناشئة 21 مرة    السلطة الفلسطينية تندد بالفيتو الأميركي    إسرائيل.. ورقة شعبوية !    الدمّاع والصحون الوساع    المستقبل سعودي    اليحيى يتفقد سير العمل بجوازات مطار البحر الأحمر الدولي    استمرار هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة من يوم غدٍ الجمعة حتى الثلاثاء المقبل    الجامعات وتأهيل المحامين لسوق العمل    التوسع في المدن الذكية السعودية    التعاون يتعادل إيجابياً مع الخليج في دوري روشن    أتالانتا يطيح بليفربول من الدوري الأوروبي    في حب مكة !    الرباط الصليبي ينهي موسم أبو جبل    الإصابة تغيب كويلار أربعة أسابيع    فيصل بن تركي وأيام النصر    سعود بن جلوي يطلع على استراتيجية فنون جدة    المفتي العام ونائبه يتسلّمان تقرير فرع عسير    المرور يحذر من التعامل مع أيّ روابط ومكالمات ومواقع تزعم التخفيض    "سلمان للإغاثة" يوقع اتفاقية تعاون لدعم علاج سوء التغذية في اليمن    أمير الرياض يستقبل مدير التعليم    إنطلاق مؤتمر التطورات والابتكارات في المختبرات.. الثلاثاء    السجن 5 سنوات وغرامة 150 ألفاً لمتحرش    الرويلي ورئيس أركان الدفاع الإيطالي يبحثان علاقات التعاون الدفاعي والعسكري    نائب أمير الرياض يقدم تعازيه ومواساته في وفاة عبدالله ابن جريس    شركة تطوير المربع الجديد تبرز التزامها بالابتكار والاستدامة في مؤتمر AACE بالرياض    الجمعية السعودية لطب الأورام الإشعاعي تطلق مؤتمرها لمناقشة التطورات العلاجية    أمير الشرقية يرعى حفل افتتاح معرض برنامج آمن للتوعية بالأمن السيبراني الأحد القادم    سمو محافظ الطائف يستقبل مدير الدفاع المدني بالمحافظة المعين حديثا    "فنّ العمارة" شاهد على التطوُّر الحضاري بالباحة    تحت رعاية خادم الحرمين.. المملكة تستضيف اجتماعات مجموعة البنك الإسلامي    أمير الباحة: القيادة حريصة على تنفيذ مشروعات ترفع مستوى الخدمات    رئيس الشورى بحث تعزيز العلاقات.. تقدير أردني للمواقف السعودية الداعمة    تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين.. انطلاق مسابقة الملك عبدالعزيز الدولية في صفر    10 آلاف امرأة ضحية قصف الاحتلال لغزة    محافظ جدة يشيد بالخطط الأمنية    السديس يكرم مدير عام "الإخبارية"    شقة الزوجية !    تآخي مقاصد الشريعة مع الواقع !    أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على محمد بن معمر    سمو أمير منطقة الباحة يلتقى المسؤولين والأهالي خلال جلسته الأسبوعية    جهود القيادة سهّلت للمعتمرين أداء مناسكهم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد مظلوم يحشد شعراء التاريخ لرثاء زوجته الراحلة
في كتاب فريد بعنوان: (ديوانُ مراثي الزوجات)
نشر في الرياض يوم 24 - 08 - 2013

مَسَاءَ يَوْمِ الإثْنَيْنِ 17/11/2008 كَانَتْ زَوْجَتِيْ «فَاطِمَةُ» الْحَامِلُ بَتَوْأَمَيْنِ ذَكَرَيْنِ، فِيْ شَهْرِهِا التَّاسِعِ عِنْدَمَا دَهَمَتْهَا، فَجْأَةً، أَعْرَاضٌ مُخْتَلِطَةٌ بَيْنَ تَفَاعُلاتِ أَلَمِ الْمَخَاضِ وَبَيْنَ ارْتِعَاشَاتٍ جَسَدِيَّةٍ غَرِيْبَةٍ، فَنَقَلْتُهَا فَوْرَاً إلى مُسْتَشْفَىْ «الشَّرْقِ» لِلْوِلادَةِ فِيْ دِمَشْقَ حَيْثُ انْتَصَرَ الْمَوْتُ عَلَى الْحَيَاةِ، فِيْ مَعْرَكَةٍ سَرِيْعَةٍ وَخَاطِفَةٍ، وَاخْتَطَفَ مِنِّيْ ثَلاثَ أَرْوَاحٍ حَبِيْبَةٍ فِيْ لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ. كَانَتْ تَجْرِبَةً فَائِضَةً بِالْقَسْوَةِ الْمُفْرِطَةِ، زَادَ مِنْ قَسْوَتِهَا مَا وَاجَهْتُهُ مِنِ انْكِشَافِ الأَقْنِعَةِ الَّتِيْ نَزَفَتْ بَشَرِيَّتَهَا لِتُسْفِرَ عَنْ وُجُوْهِ وُحُوْشٍ مِنْ حَوْلِيْ. بهذه الموجز الفاجع، يفتتح الشاعر العراقي محمد مظلوم كتابه الصادر حديثاً عن منشورات الجمل بعنوان: (ديوان رثاء الزوجات: من الشعر السومري إلى قصيدة النثر). الكتاب الذي يقع في 736 صفحة، يتألف من أربعة عناوين، الأول: إِلَى «فَاطِمَة» فِيْ ذِكْرَاهَا. والثاني: دراسة نقدية حول مراثي الزوجات. والثالث: مجموعُ شعر رثاء الزوجات. والأخير: ملحق نماذج من رثاء الحبيبات. في سفرٍ يعد الأول من نوعه في المكتبة الشعرية العربية وهو يتناول موضوعا لم يلتفت له النقاد والباحثون، إلا أن ألم الشاعر الجريح، كان ملهماً ومحرضاً، لخوض تجربة البحث التي امتزجت بالوفاء الممتد لروح زوجته الراحلة، فاطمة. وحول اللحظة التي التمعت فيها فكرة جمع (مراثي الزوجات) يبوح مظلوم، متذكراً ساعات وأيام معاناةِ الوحدة القاسية في منفاه الدمشقي، آنذاك:
"لم أَجِدْ إِزَاءَهَا مِنْ عُلاْلَةٍ أَوْ عَزَاءٍ فِي الْمَنْفَىْ الَّذِيْ أَضْحَىْ مُرَكَّبَاً مُنْذُ تِلْكَ الْلَحْظَةِ، سِوَى الْعُزْلَةِ وَالاعْتِكَافِ فِيْ يَوْمِيَّاتِ ذَلِكَ الْمُنَاخِ التَّرَاجِيْدِيِّ كِتَابَةً وَقَرَاءَةً، كَتَابَةَ مَرْثِيَّتِي الشَّخْصِيَّةِ لَهَا، صَدَرْتَ لاحِقَاً فِيْ «كِتَابُ فَاطِمَة» (2008) وَكَذَلِكَ الْقَرَاءَةَ الْمُوَازِيَةَ لِتِلْكَ التَّجْرِبَةِ التَّرَاجِيْدِيَّةِ، فَكَانَ هُنَاكَ كِتَابَانِ كُنْتُ قَرَأْتُهُمَا فِيْ وَقْتٍ سَابِقٍ، لَمَعَا فِيْ ذِهْنِي الذَّاهِلِ فَجْأَةً وَكَأْنَّهُمَا تَعْوِيْذَةُ التَّصَبُّرِ فِيْ هَذَهِ الرِّحْلَةِ الشَّاقَةِ مَنِ الأَلَمِ الرُّوْحِيّ، وَهُمَا كِتَابُ «التَّعَازِي وَالْمَرَاثِيْ» لِلْمُبَرِّدِ، وَكِتَابُ «الْمَرْثَاةُ الْغَزَلِيَّةِ فِي الشِّعْر الْعَرَبِيِّ» لِلدِّكْتُوْرَ عِنَاد غَزْوَان، وَمِنْ لَمَعَانِ هَذَيْنِ الْكِتَابَيْنِ، قَرَّرْتُ أَنْ أَمْضِيْ فِيْ بَحْثٍ طَوِيْلٍ وَشَامِلٍ لاسْتِقْصَاءِ الْمَرْثِيَاتِ الَّتِيْ كَتَبَهَا الأَزْوَاجُ الشَّعُرَاءُ لِزَوْجَاتِهِمْ الرَّاحِلاتِ فِيْ مَخْتَلَفِ عًصُوْرِ الشَّعْر. ليبدأ صاحب كتاب (الفتن البغدادية) بتتبع وجمع قصائد "مراثي الزوجات" طوال أربع سنوات مِنَ الْعَمَلِ، يقول عندها "جَمَعْتُ الْعَشَرَاتِ مِنَ النُّصُوْصِ مِنْ مَصَادِرِ التُّرَاثِ الْعَرَبِيِّ، بِمُخْتَلَفِ مَرَاحِلِهِ، وَمِنْ دَوَاوِيْنِ الشُّعَرَاء مِنْ شَتَّى الْعُصُوْرِ"؛ مهدياً هذا السفر الهام إلى ملهمته الأولى قائلاً: "وَلأَنَّ رَحِيْلَ «فَاطِمَةَ» كَانَ الْحَافِزَ الأَسَاسِيِّ لِهَذَا السِّفْرِ الصَّعْبِ، فَإِلَىْ رُوْحِهَا وَرُوْحِ مَلاكَيْهَا هَذَا الْكِتَابِ، حُشُوْدٌ مِنَ الشَّعَرَاء مِنْ مُخْتَلَفِ الْعُصُوْرِ يُؤْبِّنوْنَ نِسَاْءَهُم، وَكَأنَّهُمْ هَبُّوا مِنْ أَبَدِيَّتْهِم الْبَعِيْدَةِ لِيُؤَبِّنوا «فَاطِمَةَ» مَعِيْ". ويتضمن الكتاب أيضاً دراسة نقديةً أدبية عميقة ومكثفة بعنوان: (رثاء الزوجات وَمُشْكِلَةِ «الْجنْدَر» فِي الثَّقَافَةِ الْعَرَبِيَّة)، يغوص فيها بطون كتب التراث الشعري والأدبي ليعرض كل الآراء اللغوية والنقدية في موضوع رثاء المرأة في التراث العربي والإنساني. ومن الدراسة نقرأ ما يستخلصه مظلوم: "مراثي النساء إذن مدائح حزينة في غياب الممدوح، وغزل بلا غايات تحضر فيه جماليات الغائب بكثافة دون حضوره الجسدي، فهو بهذا المعنى شعر – في كلتا الحالتين – أو الغرضين تحرَّرَ من غرضيته وغائيته النفعية فهو لا يتوجَّهُ إلى شخص موجود يطمح أن يحظى منه بجائزة ما أو يستحقُّ عنه مطمعاً ما أو يتقرَّب منه بتوسل، انتفاء الغاية العابرة والغرضية المباشرة بجعل من هذا النوع الشعر، مستودعاً شعورياً هائلاً لكثافة صوفية تنبثق من بواطن العزلة وطبقات الوحشة المتعدِّدَة. لتشيِّدَ نشيداً عالياً في تأبين الجمال". وينبه مظلوم إلى أن هذه المراثي تنطوي أيضا، على تصوير اللحظات الأخيرة بين شخصين عاشا معنا زمناً، ومن هنا فإنها تنطوي كذلك على رثاء للنفس، للروح التي بقيت مفردة بعد شريك يومياتها، ومن هنا كذلك، تكثر نبرة الزهد في مغريات العالم، والرغبة في أن يكون الشاعر شريكاً للراحلة في رحلتها، وهذه نبرة تكاد تشكِّل واحدةً من العناصر المشتركة واللافتة في معظم القصائد هنا.
الكتاب قدم صورة مغايرة وجديدة للشاعر والإنسان العربي
ثم يختم دراسته: "يخلو السرير من الشريك الميت فيغدو العالم كلُّه مهجوراً، ويبقى الشريك الحيّ منفرداً بانتظار اللحظة التي يتحوَّلُ فيها النَّعش إلى سرير جديد، أو مهداً تُولدُ فيه حياةٌ أخرى متخيَّلة ومنشودة بالتأكيد، لكنَّها ليست واقعية بكلِّ تأكيد". وقبل أن نعرض اقتباسات لشعر ونثر رثاء الزوجات، لا بد لنا أن نشير إلى أن الكتاب وهو يقدم شحنة أدبيةً، شعريةً محضة، يكشف لنا أيضا عن وجه آخر غير معهود للشاعر والرجل العربي على حدٍ سواء، فالعربي الذي لطالما صور (من منظور الاستشراق وغيره) على أنه الرجل المزواج الذي غالباً، لا يستقر في قلبه حب زوجةٍ إلا ومضى، ليتزوج عليها، "مثنى وثلاث ورباع" أو ليختار له عشيقةً، يطربها بأشعاره؛ يأتي (ديوان مراثي الزوجات) ليزحزح بعضاً من تلك الصورة التقليدية والنمطية عن الرجال العرب، مقدما - الديوان - صورة بالغة الوجد والعاطفة لشعراء ترجموا عذابات الفراق الأبدي، شعراً، مؤثراً لا يمكن أن نستقبله دون التفكير في الحالة الروحية والنفسية التي شكلت هذه النصوص الشعرية عند هذا الشاعر العربي أو ذاك منذ تراث الشعر العربي القديم وحتى اليوم. صحيحٌ أننا بصدد شعراء، تكون الحساسية الروحية والنفسية لديهم أشد تأثراً من غيرهم من الرجال، إلا أن نظرةً متأملة لنصوص الكتاب، ستقربنا كذلك من ذوات الشعراء كرجال، ينتمون لهذه الثقافة التي على ما يبدو تحتاج إلى المزيد من التقصي والكشف.
بداية نقرأ من الشعر الجاهلي هذا النموذج عند شاعرٍ أعرابي فقد زوجته: فَواللهِ مَا أدْرِيْ إذَا الْلَيْلُ جَنَّني/ وَذَكَّرَنيهَا أيُّنا هُوَ أَوْجعْ؟/ أمُنْفَصِلٌ عَنْ ثَدْيِ أمٍّ كَرِيْمَة/ أَمِ الْعَاشِقُ النَّابِيْ بِهِ كُلُّ مَضْجَعْ؟. وقبل أن نذهب لشعر الزمن الإسلامي، نتوقف عند انموذجٍ من الشِّعْر الرافديني لُودنگيرا وهو «شَاعِرٌ سُوْمَرِيّ» رثى أيضا زوجته. وقد اكتُشفتْ هذه المرثية على لَوحٍ مسماريٍّ في مدينة نُفَّر «نيبور - العاصمة الدينية للسومريين» ويعود زمن تدوينه إلى حدود سنة 1700 ق.م، ويضمُّ اللوح مرثيتين شعريتين مكتوبتين باللغة السومرية. نقرأ في هذه المرثية: "لَقَدْ حَلَّ يَوْمُ الشُّؤْمِ عَلَى الزَّوْجَةِ/ وَقَعَتِ الْعَيْنُ الشِّرِيْرَةُ عَلَى السَّيِّدَةِ الْجَمِيْلَةِ، الزَّوْجَةِ الْعَطُوْفِ/ «نَاوَيِرْتمْ» الْبَقَرَةُ الْوَحْشِيَّةُ الْمُخْصِبَةُ/ سَقَطَتْ مُحَطَّمَةً/ وَهْيَ الَّتِيْ لَمْ تَقُلْ أَبَدَاً: إنَّنِيْ مَرِيْضَةٌ/ لَقَدْ غَمَرَتْ «نُفَّرَ» الْعَتَمَةُ/ وَفِي الْمَدِيْنَةِ/ أَطْلَقَ كُلُّ النَّاسِ صَرْخَةَ الْحُزْنِ/ وَغَمَرَتْهُمُ الشَّفَقَةُ عَلَىْ نِهَايَةِ حَيَاتِهَا الْقَاهِرَةِ. أما الإسلامي فمنه نصغي إلى هذه الأبيات: «أَبِالْفُرْعِ» لَمْ تَظْعَنْ مَعَ الْحَيَّ زَيْنَبُ/ بِنَفْسِيْ عَنِ النَّأْيِ الْحَبِيْبُ الْمُغَيَّبُ/ بِوَجْهِكِ عَنْ مَسِّ التُّرَابِ مَضَنَّةٌ/ فَلا تُبْعِدِيْنِيْ كُلُّ حَيٍّ سَيَذْهَبُ/ تَنَكَّرَتِ الأَبْوَابُ لَمَّا دَخَلْتُهَا/ وَقَالُوْا: أَلا بَانَتِ الْيَوْمَ زَيْنَبُ/ أَأَذْهَبُ قَدْ خَلَّيْتُ «زَيْنَبَ» طَائِعَاً/ وَنَفْسِيْ مَعِيْ لَمْ أَلْقَهَا حِيْثُ أَذْهَبُ. ثم يمر الديوان بالشعر الأموي حيث نقرأ: ألِمَّا عَلَىْ قَبْرٍ «لِصْفَرَاءَ» فَاقْرَآ/ السَّلامَ وَقُوْلاَ: حَيِّنَا أيُّهَا الْقَبْرُ/ وَمَا كَانَ شَيْئَاً غَيْرَ أَنْ لَسْتُ صَابِرَاً/ دُعَاءَكَ قَبْرَاً دُوْنَهُ حِجَجٌ عَشْرُ. وفي الشعر العباسي، مع أبي تمام، نقتطع هذا الجزء: يَقُوْلُوْنَ: هَلْ يَبْكِي الْفَتَىِ لِخَريْدةٍ/ إذَا مَا أَرَادَ اعْتَاضَ عَشْرَاً مَكَانَهَا؟/ وَهَلْ يَسْتَعِيْضُ الْمَرْءُ مِنْ خَمْسِ كَفِّهِ/ وَلَوْ صَاغَ مِنْ حَرِّ الْلُجَيْنِ بَنَانَهَا؟. وبعد نماذج عديدة من الشعر العباسي والأندلسي، يلج مظلوم شعر القرن العشرين، ليستوقفنا رثاء الشاعر محمد مهدي الجواهري لزوجته التي يسميها في القصيدة (أمونة)، حيث نقرأ: هَاْ نَحْن «أَمُّوْنَةٌ» نَنْأَىْ وَنَفْتَرِقُ / وَالْلَيْلُ يَمْكُثُ وَالتَّسْهِيْدُ وَالْحُرَق/ وَالصَّبْحُ يَمْكُثُ لا وَجْهٌ يُصَبِّحُنِ/ بِهِ، وَلا بَسَمَاتٌ مِنْكِ تَنْطَلِقُ/ «أَمَّوْنَهٌ» وَالضَّمِيْرُ الْحَيُّ ضَارِبَة/ عُرُوْقُهُ وَالضَمِيْرَ الْمَيِتِ يَعْتَرِقُ / خَمْسٌ وَخَمْسُوْنَ عِشْنَاهَا مُرَاوَحَةً/ نَبُزُّ منْ سُعِدُوا فِيْهَا وَمَنْ شُنِقُوا/ يَا حُلْوَةَ الْمُجْتَلَى وَالنَّفْسُ ضَائِقَةٌ/ وَالأَمْرُ مُخْتَلِطٌ وَالجَوُّ مُخْتَنِقُ. ومن الشعر الحر، نقرأ لنزار قباني، مقطعاً من (قصيدة بلقيس): الْبَحْرُ فِي بَيْرُوْتَ بَعْدَ رَحِيْلِ عَيْنَيْكِ اسْتَقَالْ/ والشِّعْرُ يَسْأَلُ عَنْ قَصِيْدَتِهِ/ التي لَمْ تَكْتَمِلْ كَلِمَاتُهَا/ ولا أَحَدٌ يُجِيْبُ عَلَى السُّؤَالْ/ الْحُزْنُ يا بَلْقِيْسُ/ يَعْصُرُ مُهْجَتِي كالبُرْتُقَالَةْ/ الآنَ أَعْرِفُ مَأزَقَ الْكَلِمَاتِ/ أَعْرِفُ وَرْطَةَ الْلُغَةِ الْمُحَالَةْ/ وَأنَا الَّذِي اخْتَرَعَ الرَّسَائِلَ/ لَسْتُ أَدْرِي كَيْفَ أَبْتَدِئُ الرِّسَالَةْ. أما الشاعر محمد الماغوط فنقرأ له نصاً نثريا مؤثراً في رثاء زوجته سنية صالح: كُلُّ مَنْ أَحْبَبْتُ, كُنَّ نُجُوْمَاً/ تُضِيء لِلَحْظَةٍ وَتَنْطَفِئُ إِلَى الأَبَدِ/ وَأَنْتِ وَحْدَكِ السَّمَاءُ/ ثَلاثِيْنَ سَنَةً/ وَأَنْتِ تَحْمِلِيْنِي عَلَى ظَهْرِكِ كَالْجُنْدِيِّ الْجَرِيْحِ/ وَأنَا لَمْ أَسْتَطِعْ/ أَنْ أَحْمِلَكِ بِضْعَ خَطَوَاتٍ إِلَى قَبْرِكِ/ أَزُوْرُهُ مُتَثَاقِلاً/ وَأَعُوْدُ مُتَثَاقِلاً / لأَنَّنِي لَمْ أَكُنْ فِي حَيَاتِيْ كُلِّها/ وَفِيَّاً أَوْ مُبَالِيَاً/ بِحُبّ, أَوْ شَرَفٍ أَوْ بُطُوْلَةٍ/ وَلَمْ أُحِبَّ مَدِيْنَةً أَوْ رِيْفَاً/ قَمَرَاً أَوْ شَجَرَةً, غَنِيَّاً أَوْ فَقِيْرَاً/ صَدِيْقَاً أَوْ جَارَاً, أوْ مَقْهَىْ. ونختم مختارات رثاء الزوجات مع هذا النص الأثير للمؤلف محمد مظلوم من كتاب (فاطمة)، راثياً زوجته الراحلة: أَسْتَنْفِرُ لأَجْلِكِ الشُّعَرَاءَ/ مِنْ كُلِّ الْعُصُوْرِ/ بِذُقُوْنِهِمِ الْمُبْتَلَّةِ/ وَنَظَّارَاتِهِمِ الْلاصِفَةِ تَحْتَ مَطَرٍ مُعْتِمٍ/ لِيَقْرَأوا مَرَاثِيَهُمْ أَمَامَ وَجْهَكِ النَّائِمِ/ كَنَهَارٍ فِي بِئْرٍ/ أَقْرَأُ مَعَ «مُوْنَتَالِي» سِفْرَ أَشْعِيَا الثَّانِيْ/ وَنَبْكِيْ مَعَاً/ عِنْدَ مَضِيْقِ التَّثْنِيَةِ
وَرَحِمٍ مُغْلَقٍ كَالأَبَدِيَّةِ/ وَلا أَرَىْ أَحَدَاً يَأتِي مِنْ الْمَضِيْقِ
غَيْرَكِ/ لاْ أَحَدَ/ سِوَى تِلْكَ الْعَاصِفَةِ الْوَحِيْدَةِ/ فِيْ قَلْبِي يَجُرُّهَا مُحَارِبُوْنَ مَهْزُوْمُوْن/ لِمَاذَا عُدْتِ إِلَى أُمِّكِ.
نزار قباني
محمد الماغوط
الجواهري
محمد مظلوم


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.