لي صديق يُصرّ على وصف تكريم الراحلين بأنه مجرد إعادة تكفين، وفق قاعدة: (لأعرفنّك بعد الموت تندبني وفي حياتيَ ما زوّدتني زادي)z قبل فترة فاجأني المؤرخ والباحث الأستاذ محمد عبدالرزاق القشعمي، الرجل الذي نذر نفسه لتكريم الرواد أحياء وأمواتاً ما وسعه ذلك بإهدائي آخر مؤلفاته، وهو الكتاب الذي فرحت به قبل أن أفتحه، وذلك بمجرد أن وجدت على غلافه اسم وصورة جاري الأقرب في هذه الزاوية، وجار الجنب، هذه القامة الأدبية والفكرية والثقافية الشامخة التي لا يستطيع أي قارئ للثقافة الوطنية أن يتخطاها دون أن يقف عندها، وعند إنتاجها العميق بما تستحق من التبجيل مكتف اليدين كتلميذ في حضرة أستاذ لا يمكن أن تخطئه الذاكرة. فرحتُ لأن (عابد خزندار) هذا المفكر الملتزم أمد الله في عمره، سيستشعر التكريم نبضاً يدق في تلك الأحرف التي انبرت تتحدث عنه، سيقرأ نفسه في عيون الآخرين وفي ضمائرهم ووجدانهم، سيعود ليتلمظ ويستطعم قيمة ما أنجزه خلال مسيرته الفكرية والأدبية المديدة، وهذا أجمل وأثمن تكريم يمكن أن يحصل عليه المبدع الحقيقي . وفي المقابل.. فقد حزنتُ على فقدان فضيلة الشيخ الزاهد، والمكتظ خلقا ونبلا وعلما صالح الحصيّن رحمه الله، لكنني حزنتُ أكثر بعدما قرأت مطولات نعيه وتعرفتُ عليه أكثر. لم أقابل الرجل إلا مرة واحدة في الهيئة العامة للسياحة، وكنت أعرف نتفاً صغيرة عن مآثره، وحين حاولت تقبيل جبينه تطاول الرجل بسماحته ليمنعني من ذلك تواضعاً. وأعتقد أنني لو أحطتُ بما قرأته عنه قبل رحيله لقبلتُ جبينه ولو عنوة. أعود إلى عبارة صديقي (راضي المصارع) ذلك الشاعر البهي اللائذ بالصمت احتجاجا على غثاء الساحة، لأزعم أن الكثيرين منا.. ربما لا يزالون يقرأون الحديث النبوي الشريف: (اذكروا محاسن موتاكم) كما لو أنه دعوة لتأجيل تكريم المحاسن إلى ما بعد الغياب، في حين أنني وبحسب فهمي المتواضع أجد فيه ما يدعو إلى ترك الخوض في عثرات الموتى بعدما أصبحوا بين يدي بارئهم، والاكتفاء بذكر محاسنهم لحث الناس على الترحم عليهم . لذلك أريد أن أدعو لإعادة النظر في مشاريع (إعادة التكفين)، وتكريم من يستحق التكريم في حياته.. ممن تركوا بصمة لا تنمحي في سجلات الوطن بمختلف ألوانها وعناوينها. بهدف بناء القدوة المثلى، ولكن بعيدا عن دروع التنك والصفيح والزجاج.. التي باتت تنفق بإسراف هنا وهناك، حتى تساوى فيها تكريم من يستحق مع من يُخشى غضبه! نريد تكريما حيّا ونابضا ونابغا، يليق بكل قامة وطنية، تكريماً يأسو عذابات طريقها الطويل نحو المجد، ويجعلها تتذوق شهد قيمة الوفاء، وقيمة ما أنجزته في حياتها، وتحتفل به مع محبيها..