11قطاعًا بالمملكة يحقق نموًا متصاعدًا خلال الربع الأول ل 2024    تخصيص 418 مليون دولار لتمويل مشاريع تنموية دولية    وكيل محافظة الزلفي يدشّن فعاليات أسبوع البيئة    وزير الخارجية يترأس اجتماع اللجنة المكلفة من "القمة العربية الإسلامية"    ساعة أغنى رُكاب "تيتانيك" ب1.46 مليون دولار    النصر يؤمن مشاركته في السوبر السعودي    صدور الموافقة السامية علي تكليف الأستاذ الدكتور عبدالله بن عبد العزيز التميم رئيساً لجامعة الأمير سطام    وزير الاقتصاد والتخطيط: المملكة أوجدت العديد من الفرص التنموية    نائب وزير الخارجية يستقبل رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي    6 شروط للقبول في البرنامج التدريبي لتأهيل قائدات قطار الحرمين    السعودية ترسم خارطة جديدة للسياحة الصحية العالمية    محافظ خميس مشيط يدشن مبادرة "حياة" في ثانوية الصديق بالمحافظة    رئيس مجلس الوزراء العراقي يصل الرياض    إلزام موظفي الحكومة بالزي الوطني    "واحة الإعلام".. ابتكار لتغطية المناسبات الكبرى    أمطار تؤدي لجريان السيول بعدد من المناطق    لرفع الوعي المجتمعي.. تدشين «أسبوع البيئة» اليوم    أمين عام «أوبك»: نهاية النفط لا تلوح في الأفق    القيادة تهنئ رؤساء تنزانيا وجنوب أفريقيا وسيراليون وتوغو    أمير الرياض يؤدي الصلاة على منصور بن بدر بن سعود    وزير الدفاع يرعى تخريج الدفعة (82) حربية    «هندوراس»: إعفاء المواطنين السعوديين من تأشيرة الدخول    طابة .. قرية تاريخية على فوهة بركان    مركز الملك سلمان يواصل مساعداته الإنسانية.. استمرار الجسر الإغاثي السعودي إلى غزة    دعوة أممية لفرض عقوبات على إسرائيل    وفاة الأمير منصور بن بدر بن سعود بن عبدالعزيز آل سعود    وزير الإعلام ووزير العمل الأرمني يبحثان أوجه التعاون في المجالات الإعلامية    فريق طبي سعودي يتفوق عالمياً في مسار السرطان    برعاية الملك.. وزير التعليم يفتتح مؤتمر «دور الجامعات في تعزيز الانتماء والتعايش»    العرض الإخباري التلفزيوني    وادي الفن    هيئة كبار العلماء تؤكد على الالتزام باستخراج تصريح الحج    كبار العلماء: لا يجوز الذهاب إلى الحج دون تصريح    مؤتمر دولي للطب المخبري في جدة    أخصائيان يكشفان ل«عكاظ».. عادات تؤدي لاضطراب النوم    4 مخاطر لاستعمال الأكياس البلاستيكية    وصمة عار حضارية    ألمانيا: «استراتيجية صامتة» للبحث عن طفل توحدي مفقود    الأخضر 18 يخسر مواجهة تركيا بركلات الترجيح    الهلال.. ماذا بعد آسيا؟    حكم و«فار» بين الشك والريبة !    الاتحاد يعاود تدريباته استعداداً لمواجهة الهلال في نصف النهائي بكأس الملك    استقلال دولة فلسطين.. وعضويتها بالأمم المتحدة !    سنة «8» رؤية    انطلاق بطولة الروبوت العربية    (911) يتلقى 30 مليون مكالمة عام 2023    تجربة سعودية نوعية    السجن لمسعف في قضية موت رجل أسود في الولايات المتحدة    أمير الرياض يوجه بسرعة رفع نتائج الإجراءات حيال حالات التسمم الغذائي    الأرصاد تنذر مخالفي النظام ولوائحه    التشهير بالمتحرشين والمتحرشات    واشنطن: إرجاء قرار حظر سجائر المنثول    المسلسل    إطلاق برنامج للإرشاد السياحي البيئي بمحميتين ملكيتين    الأمر بالمعروف في الباحة تفعِّل حملة "اعتناء" في الشوارع والميادين العامة    الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أصبحت مستهدفات الرؤية واقعًا ملموسًا يراه الجميع في شتى المجالات    «كبار العلماء» تؤكد ضرورة الإلتزام باستخراج تصاريح الحج    خادم الحرمين يوافق على ترميم قصر الملك فيصل وتحويله ل"متحف الفيصل"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



علَّم نفسه فأذهل الباحثين ومازال يذهلهم بتنوع معارفه وروائع إبداعاته
نشر في الرياض يوم 21 - 04 - 2013

كل باحث وكل جيل يجد في تراث دافنشي ما يبهر ويُلهم وبسبب هذا التنوع العجيب وهذا الثراء المدهش بقي مؤثراً في كل الأجيال التي جاءت بعده حسب تنوع الاهتمامات فما زالت الدراسات تتوالى عنه بوصفه النموذج الأروع للنبوغ الخارق فهو فائقٌ في تعدُّد مواهبه وفي تنوع مجالات إبداعه
في تقلبات العقل الأوربي خلال خمسة وعشرين قرناً بين الانفتاح والانغلاق وبين الجمود والانطلاق وبين الكلال والإبداع إلى أن تَحَرَّر بما فيه الكفاية من الرواسب والمعوقات فراح يجوب الآفاق وينجز الخوارق إن في هذا كله إضاءات كاشفة للمجتمعات التي تريد أن تأخذ المسار الصحيح نحو الازدهار والإسهام الإيجابي في الحياة العالمية المعاصرة فبعد الفورة المدهشة للعقل اليوناني في القرنين السادس والخامس قبل الميلاد تكالبتْ مجموعةٌ من العوامل فأخمدت تلك الفورة المشعة فدخلتْ أوربا في سبات طويل فَصَل بينها وبين ذلك الأساس الثقافي العظيم ولكن ذلك الإخماد حصل بعد أنْ انتشرت بذور الفكر الإغريقي في أوربا.
فخلال قرون طويلة أمسكتْ الكنيسة بالعقل الأوربي وأحْكمتْ إغلاقه وحاربت أي تفكير يتشوف لغير ما تمليه عليه وما تُبرمجه به كما هو شأن كل الثقافات المغلقة فانكمش الفكر الفلسفي الإغريقي خلال القرون الوسطى وكمنتْ علوم الإغريق العقلية واستولى النقلُ على العقل وحل الترديد محل التجديد واتجهت الحركة نحو التقهقر بدل التقدم وبقي الناس يكررون نفس الأقوال في ثقة عمياء واغتبطوا بما أُوهموا به من تجهيل وتضليل وانغلاق وتحجُّر فقد توهموه الحق المطلق وأنه الكمال الفائق الذي يفيض عن الكفاية وصارت الأجيال الأوربية تتوارث ذلك الوهم العميق المسيطر الذي احتل العقول وصاغ العواطف وأغلق أبواب التساؤل فقد بُرمجوا بأنهم في مجتمع قد اختصه الله بامتلاك الحقيقة النهائية المطلقة وبأن عليهم أن يغتبطوا بهذا الامتياز الفاصل الذي اختصهم الله به وأن يكتفوا به باعتزاز وغبطة فاستسلم الأوربيون لهذه الغبطة العمياء المخدِّرة وبقوا مبتهجين بهذا الوهم الذي يجسِّد الجهل المركَّب بأعمق معانيه ويمثل التسليم الأعمى بأوضح تجلياته.
ولكن وسط ذلك الاستسلام العام الطويل والبليد وخلافاً لتلك الغبطة الساذجة العمياء بزغت في أوربا بعضُ العقول الريادية المتوقدة فراحت تتساءل بحدة وحرقة: ماذا أصاب العقل الأوربي ليبقى مستسلماً للجهل المركَّب ومغتبطاً به وإلى متى ستظل إنسانية الإنسان مهانة ومهدرة وتبقى فرديته مطموسة ومذابة؟ ونَشِطَ أولئك الأفذاذُ في مسعى إنساني عظيم يحاول به أن يوقظ فردية الإنسان المطموسة ليكتشف الناس بأنفسهم ركام الجهل المركَّب الذي تبرمَجوا به تلقائيًّا ثم ترسَّخ بالتعزيز الدائم والتأكيد المستمر وقد وجدتْ هذه العقول الاستثنائية الخارقة أنْ تحرير الناس من البرمجة المستحكمة يستلزم إحياء التراث اليوناني العقلاني المنفتح على الآفاق من أجل إعادة أوربا إلى ثقافة العقل الفاحص بعد انتكاس دام عشرة قرون وكان ليوناردو دافنشي في طليعة رواد الإحياء وقد كان مثالاً مدهشاً في الريادة والنبوغ والتفرد وفي تعدُّد المواهب والعصامية والاعتماد على النفس ونفاذ البصيرة ومرونة العقل وقابلية التجدد والقدرة على الانتقال من مجال إلى آخر بمحض الاهتمام الذاتي التلقائي.
لكن نتائج الريادة الفردية الخارقة تبقى مرتهَنة بالاستجابة الاجتماعية الإيجابية الكافية فلقد كانت ريادة ليوناردو دافنشي متنوعة وذات مستويات متفاوتة فاستجاب الناس له في بعض المجالات وعجزوا عن مجاراته في مجالات أخرى فقد كان رائداً في مجالات كثيرة لكن إيطاليا وأوربا عموماً لم تكن متهيئة ثقافيًّا لتستجيب له إيجابيٍّا إلا في مجالات الفنون حيث وَجَدَ قبولاً عارماً في هذه المجالات لأن البيئة كانت متهيئة ثقافيا لفهمه وكانت مستعدة ذهنيًّا بأن تستجيب له.
أما في مجال العلم والاختراع فقد كان دافنشي سابقاً لعصره سبقاً مذهلاً فتأخرت الاستجابة لريادته إلى أن تهيأت المجتمعات الأوربية بعد أجيال لهذه النقلة النوعية الباهرة فالمجتمعات لاتستجيب إيجابيٍّا للريادة إلا إذا ملكتْ القدرة على التغيُّر وأحسَّت بالحاجة إليه فالرائد مثل الطبيب لا يستطيع أن يعالج إلا الذين يدركون حاجتهم لعلاجه ويثقون به ويطمئنون لكفايته وهذه هي المعضلة البشرية الكبرى فالرواد يظهرون في كل المجتمعات تقريبا فلن يأتي الخلل من الافتقار إلى الرواد وإنما يأتي الخلل دائماً من عجز البيئة عن إدراك القيمة التي تتضمنها الريادة مما يؤدي إلى الاستخفاف بالرائد أو الرفض القاصم لأفكاره فأعظم الرواد قد تفصله فكريًّا عن عصره مسافةٌ هائلة غير قابلة للاجتياز فلا يكون مُؤَثراً في زمنه وربما يبقى مجهولاً أزماناً طويلة وقد انتبه لهذه الظاهرة الثقافية المؤلف القدير الدكتور مايكل هارت في كتابه (المائة الأوائل) فالمعيار الذي وضَعَه لتقييم الرواد والتزم به هو عمق واتساع التأثير في الناس وهي نتيجة لا ترتبط بعظمة الريادة بل باستجابة البيئة استجابة إيجابية وبسبب هذا المعيار فإن المؤلف يوضح في مقدمة الكتاب بأنه رغم عظمة دافنشي فإنه قد استبعده من المائة الأوائل لأنه سابقٌ لعصره فلم تتحقق الاستجابة له مما حَصَر تأثيره في بعض مجالات إبداعه خصوصاً في مجال الفن.
ولم ينفرد مايكل هارت بهذا التأكيد وإنما سبقه إليه الفيلسوف المؤرخ العظيم ويل ديوارنت فقد كتب في الجزء الحادي والعشرين من (قصة الحضارة) يقول: ((كان بوسع رجل مثل ليوناردو دافنشي أن يكون ذا نظرة كونية شاملة وأن يمسَّ أكثر من عشرة علوم بعقلية الطلعة المتشوف ولكن البلاد كانت خالية من المعامل العلمية الكبرى.. كان حُبُّ الجمال قد نضج حتى صار فنًّا فَخْماً جليلاً ولكن لم يكن حب الحقيقة ينمو ليصير علماً في تلك العصور)) إن الفن يخاطب العواطف وهي سريعة التأثر وقوية الاستجابة كما أن الفنون التي أبدع فيها دافنشي كانت شائعة في أوربا لذلك لم يجد من البيئة مقاومة بل وجَدَ إعجاباً شديداً وترحيبا حارا كما أنه من السهل في المجتمعات الأوربية أن يدرك الناس جمال الفنون وأن يتأثروا بروائعها لأن الكنيسة لم تحارب الفنون وإنما كانت تشجعها فهي جزءٌ من نشاطها العام وتستخدمها في طقوسها اليومية فهي من الثقافة السائدة ولها حضورٌ دائم وقوي فالكنيسة كانت تحارب الأفكار الطارئة والتساؤلات الموقظة والبحث الموضوعي وبالمقابل كانت تشجع الرسم والنحت والموسيقى وبعض الفنون التي هي من صلب اهتماماتها لكنها كانت ضد العلم بمعناه الحديث وما يعنيه من تجرد ونقد وانفتاح وموضوعية وتحليل وتمحيص وتقويض واحتمالات وتصحيح مستمر لذلك قوبلتْ إبداعات دافنشي في مجال الفن بتقدير بالغ إلى درجة أن ملك فرنسا استدعاه من إيطاليا إلى فرنسا فأكرمه غاية الإكرام وأظهر له الكثير من الود والاحترام والإعجاب فقد كان شديد الانبهار بإبداعاته الفنية الخارقة.
أما في مجال العلم والاختراع فكما أشار ديورانت لم تكن البيئة متهيئة لاستقبال أفكاره الريادية الثورية ولا هي قادرة على فهمه فلا يهتم بالعلم من أُوهم بأنه في بيئة تملك الحقيقة المطلقة لذلك لم تحصل الثورة العلمية إلا حين تمَّ تقويض الكثير من المسلَّمات الخاطئة وحصل الشك في ادعاءات الكنيسة وبذلك تغيَّر الموقف من الحقيقة فهذا التغيُّر هو الشرط الأوَّلي للتعلُّم وهو المقوم الأهم للبحث الموضوعي المثمر ولم يكن هذا الشرط في عصر دافنشي متوفراً فقد كانت الكنيسة خلال أجيال ممتدة قد برمجتْ الناس في أوربا بأنها تتحدث باسم الله تعالى وأنها تملك الحقيقة المطلقة فصاروا يُصْغون إليها بكل تسليم ويثقون بها ثقة عمياء فاكتفوا بما تبرمجوا به ولم يكن الشك يراودهم في شيء مما هو سائد لقد اعتمدوا في مجال الحقيقة على الكنيسة اعتماداً كليا وتحفَّزوا لمحاربة من يعارضها أما دافنشي وقليلون أمثاله فقد كانوا رواداً خارقين فكانت النتيجة أن بحوث دافنشي العلمية الرائدة وأفكاره الخلاقة قد بقيت غالبا غير مفهومه وغير مؤثرة ولا تجد الاهتمام لشيوع الاطمئنان إلى السائد وظلت أفكاره الخارقة تنتظر أجيالاً لاحقة تكون قادرة على فهمه ومستعدة بأن تستجيب له.
وقد أكد المؤرخ الهولندي الشهير يوهان هويزنجا اختلاف تفكير دافنشي عن التفكير السائد في عصره اختلافاً نوعيًّا فهو قد تجاوزه تجاوزاً خارقاً مما أقْعد المجتمع عن الاستجابة الإيجابية له فيؤكد هويزنجا في كتابه (أعلام وأفكار: نظرات في التاريخ الثقافي) أن عصر النهضة لم يستطع أن يتخفَّف من أثقال العصور الوسطى وتصوراتها المعيقة ولكنه يستثني دافنشي فيقول: ((كان ليوناردو دافنشي ممثلاً للطريقة العصرية في البحث عن الصدق والحقيقة بيد أن النهضة كانت في مجملها لاتزال جانحة نحو الاتجاه القديم من حيث الاعتقاد بالمصدر الثقة والاعتماد عليه)) فدافنشي كان باحثاً تجريبيًّا وقد التزم بالبحث الحر عن الحقيقة وكان يعتمد على التجريب والمعاينة والتشريح والاستقصاء والفحص والتحقق فهو مرجعية ذاته ولم يكن يرضى بالتقليد الأعمى فكان بذلك مختلفاً عن البيئة التي ظهر فيها إن الرواد الخارقين يصنعون أنفسهم بأنفسهم إنهم يطوعون الظروف ولا تطوعهم فهم نتاج ذواتهم وليسوا نتاج البيئة الراكدة التي تبقى منتظمة على الركود ومغتبطة به حتى يأتيها ما يهزها هزًّا مزلزلا.
ولتنوع مجالات نبوغ دافنشي وتعدُّد مجالات إبداعه لم يكن الإعجاب الشديد به محصوراً بجيل دون آخر وإنما استمرت الأجيال تجد في فكره وإبداعاته ما يبهر ويُلهم إلى درجة أن مفكراً عالميًّا معاصراً مبدعاً مثل هربرت جورج ويلز يصفه بأنه ذو بصيرة إعجازية فيقول في المجلد الثالث من كتابه (معالم تاريخ الإنسانية): ((تفجَّرَتْ أوربا الغربية عن مجموعة من الأسماء المتلألئة خسفت بضيائها أبعد الناس صيتاً ومن أبكر أفراد هذه المجموعة من الكواكب المتلألئة وأعظمهم جلالاً ليوناردو دافنشي وهو رجل له بصيرة إعجازية كان عالماً بالطبيعة والتاريخ الطبيعي وبعلم التشريح وكان مهندساً كما كان فناناً عظيم الشأن جدا وهو أول رجل عصري أدرك الطبيعة الحقَّة للحفريات فأنشأ دفاتر مذكرات ملأها بملاحظات ماتزال تُذهل عقولنا إلى اليوم وهو يُظهر اقتناعاً بإمكان الطيران الميكانيكي إمكاناً عمليًّا)) فكل باحث وكل جيل يجد في تراث دافنشي ما يبهر ويُلهم وبسبب هذا التنوع العجيب وهذا الثراء المدهش بقي مؤثراً في كل الأجيال التي جاءت بعده حسب تنوع الاهتمامات فما زالت الدراسات تتوالى عنه بوصفه النموذج الأروع للنبوغ الخارق فهو فائقٌ في تعدُّد مواهبه وفي تنوع مجالات إبداعه.
إن الإعجاب الشديد بدافنشي لايتوقف فكل جيل يجد فيه ما يدهشه ويبهره فحين نعود إلى كتاب (تاريخ الحضارات العام) وهو كتابٌ ضخم من سبعة مجلدات كتبه أكاديميون فرنسيون معاصرون بإشراف موريس كروزيه نجدهم مذهولين من دافنشي الذي يسمونه ((نابغة الفن)) ويصفونه بأنه ((ذو النبوغ الخلاق والمواهب الموسوعية)) فهو في نظرهم ((الفنان والعالم والمهندس الكبير..)) إنهم مذهولون من اجتماع كل هذه القدرات والكفايات في فرد واحد: ((فَجَمَعَ في شخصيته الفذة الثقافة الحضارية فكان صورة صحيحة للإشعاع في عصر النهضة)) وكان يدرك امتيازه وفرادته فيضيق بالجهالات السائدة ويترفَّع عن الخواء المقيم حتى إنهم وصفوه بالكبرياء والغطرسة لأنه كان يدرك تفاهات الناس وخواءهم لكنه كان مضطراً للتعايش مع الواقع والنزول إلى مستويات الاهتمام السائدة فقد اضطر أن يستجيب لاهتمامات الناس حين عجزوا عن فهمه ولم يستطيعوا الارتقاء إلى مستوى اهتمامه.
وحين نعود إلى كتاب (تاريخ العالم) الذي شارك في كتابته عددٌ من المؤرخين والباحثين بإشراف السير جون هامرتن نجد في المجلد الخامس بحثاً دقيقاً شديد التركيز والشمول كتبه رومين باترسون عن (تراث النهضة) ليلفت النظر إلى أن ريحاً قوية من الحرية الفكرية والفنية هبَّتْ من إيطاليا على أوربا ويستهل بحثه بالحديث عن ليوناردو دافنشي بوصفه أعظم من يمثلون النهضة وليؤكد أنه كان مولعاً بالحرية وأنه كان يتطلع إلى أن تنعم بها الإنسانية كلها ليحل السلام وتزدهر الحياة لأنه يدرك أن البشرية مسلوبة أعظم حقوقها ومحرومة من أبهى مزاياها وهي الحرية المنضبطة التي بها تتحقق إنسانية الإنسان وأنه من أجل إيقاظ الناس بأن قيمة وجودهم مرتهنة بمقدار ما ينالون من حرية كان يشتري طيوراً محبوسة في أقفاص ثم يطلقها لتنطلق في الفضاء فيستمتع بانطلاقها مؤكداً أن الفكر الإنساني كالطائر الأسير وأن عليه أن يتحرر من سجَّانيه ليستعيد الإنسان إنسانيته المسلوبة فيفكر بطلاقة وانفتاح ويبحث بنفسه عن الحقيقة وينطلق في الحياة وفق مايتوصل إليه من قناعات قائمة على البحث والاستقصاء والتحقق.
ويشير الباحث إلى تعدد مواهب الفنانين في عصر النهضة أمثال رافائيل ومايكل انجيلو لكنه يَعتبر أن دافنشي حالة فريدة استثنائية ثم يقول: ((من العسير في حالته أن نعرف هل الفن حقا هو ما كان يشغله.. ذلك أنه لم يكن فقط رسَّاماً بل كان أيضا باحثاً أصيلاً في الطبيعة في شكلها العضوي وغير العضوي تَرَكَ مذكرات ضخمة مليئة بالملاحظات العلمية ومارس التشريح وقد أثمر ذلك رسالته الشهيرة في التصوير ورسالته الأخرى عن الطيران وأجرى تجارب في المواد الكيميائية والاختراع الآلي ورَسَمَ كثيراً من الخرائط)) ثم يقول: ((كانت شخصية دافنشي تنطوي على سر يقبع خلف حجاب كثيف يتعذر اختراقه وكثيراً ما اعتزل المجتمع ليفكر في لغز الحياة الإنسانية)) ثم يشير الباحث إلى أن النخبة المثقفة في عصر النهضة سارت في اتجاهين مختلفين فكان هناك الانتهازيون الذي تهمهم المكاسب الخاصة المعنوية والمادية يقابلهم دافنشي وآخرون كانوا ينشدون معنى الحياة ويحاولون اختراق الحجب ويبذلون كل ما في وسعهم للنفاذ إلى الأعماق فهم أهل الصدق والأصالة والعمق.
وفي كتاب (الفنون الجميلة) يخصص المؤلف مختار العطار فصلاً طويلاً ليستعرض بعض إبداعات دافنشي فيقول في مستهله: ((دافنشي نموذجٌ فريد لايختلف اثنان على أنه فلتة من فلتات الزمان جاء يكشف الغطاء ويتيح لنا حياة أفضل تَفَوَّقَ في اثنى عشر ميداناً من ميادين العلم والفن: الرسم التصويري والنحت والتشريح والعمارة والجيولوجيا وقواعد الطيران وقوانين المنظور والهندسة الحربية وعلوم الطبيعة والميكانيكا والفلك والكوسمولوجيا... إذا تأملنا واحداً من ميادين المعرفة التي طرقها دافنشي خُيِّل إلينا أنه نذر له حياته)) فهو يبدع في أي مجال يوجِّه اهتمامه إليه حتى ليُخَيَّل لأي باحث في أي مجال أن هذا هو المجال الذي ركَّز عليه دافنشي واستغرق فيه واستفرغ طاقته ولكنه إذا انتقل إلى المجالات الأخرى وجدها في نفس المستوى من الفرادة والإبداع.
ولأن ريادة دافنشي كانت محل إجماع فإن أي كتاب في تاريخ العلوم أو تاريخ الاختراع أو تاريخ الفنون أو تاريخ عصر النهضة أو تاريخ علم التشريح أو تاريخ الطيران أو التاريخ الثقافي والحضاري لأوربا لا بد أن يتوقف عند دافنشي بريادته الباهرة وتنوع إبداعاته واستمرار تأثيره ففي المجلد الثاني من كتاب (تاريخ العلوم العام) الذي أنجزه فريقٌ من العلماء بإشراف رينيه تاتون يؤكد: أن دافنشي عبقرية ذات موارد متعددة تستعصي على أي تصنيف ففي عالم دافنشي يتَّحد الجمال مع الحقيقة وكذلك النظرية مع التطبيق.
ومن أحدث الكتب التي صدرت عنه كتاب (كيف تفكر على طريقة دافنشي) لمايكل غلب فصار من أكثر الكتب رواجاً كما أن رواية (شيفرة دافنشي) لدان براون قد جعلته على كل لسان في جميع اللغات وقد أدت هذه الرواية إلى فَتْح المجال لدراسات علمية تستهدف التحقُّق مما أثاره براون كالدراسة التي أصدرها مردريك لونوار وماري فرانس.
إن المضمون الأكثر أهمية بالنسبة لي هو أن في تجربة دافنشي قد تجسَّدَتْ ظاهرة الريادة في أروع تجلياتها أما الاستجابة فكانت في جانب الفن إيجابية وقوية ولكنها اتَّسَمَتْ بالسلبية في مجالي العلم والاختراع غير أنها لم تكن سلبية رفْض ومقاومة وإنما كانت تعبيراً عن عجز المجتمع عن فهمه وعدم قدرته على استيعاب أفكاره لأنه سابقٌ لعصره بمسافة غير قابلة للاجتياز آنذاك.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.