أمير حائل يرأس اجتماع لجنة السلامة المرورية    استعراض تقرير الميزة التنافسية أمام أمير الشمالية    توصيات شورية لإنشاء المرادم الهندسية لحماية البيئة    خسائر بقيمة 1.6 مليار يورو في إسبانيا بسبب انقطاع الكهرباء    165 عقدا صناعيا واستثماريا بصناعيتي الأحساء    250% تفاوتا في أسعار الإيجارات بجازان    أمانة القصيم تحقق التميز في كفاءة الطاقة لثلاثة أعوام متتالية    أول تعليق من رونالدو بعد ضياع الحلم الآسيوي    برشلونة وإنتر ميلان يتعادلان 3/3 في مباراة مثيرة    سعود بن بندر يطلع على المبادرات الإصلاحية والتأهيلية لنزلاء السجون    أضواء بنت فهد: «جمعية خيرات» رائدة في العمل الخيري    جمعية الزهايمر تستقبل خبيرة أممية لبحث جودة الحياة لكبار السن    فيصل بن مشعل: اللغة العربية مصدر للفخر والاعتزاز    المتحدث الأمني للداخلية: الإعلام الرقمي يعزز الوعي المجتمعي    العلا تستقبل 286 ألف سائح خلال عام    جامعة الملك سعود تسجل براءة اختراع طبية عالمية    مؤتمر عالمي لأمراض الدم ينطلق في القطيف    اعتماد برنامج طب الأمراض المعدية للكبار بتجمع القصيم الصحي    قطاع ومستشفى محايل يُفعّل مبادرة "إمش 30"    الأمير سعود بن نهار يستقبل الرئيس التنفيذي للمركز الوطني للأرصاد    محافظ سراة عبيدة يرعى حفل تكريم الطلاب والطالبات المتفوقين    أمير تبوك يترأس اجتماع لجنة الحج بالمنطقة    خسارة يانصر    أمير جازان يستقبل القنصل العام لجمهورية إثيوبيا بجدة    واشنطن تبرر الحصار الإسرائيلي وتغض الطرف عن انهيار غزة    أوكرانيا وأمريكا تقتربان من اتفاقية إستراتيجية للمعادن    حينما يكون حاضرنا هو المستقبل في ضوء إنجازات رؤية 2030    جاهزية خطة إرشاد حافلات حجاج الخارج    الرئيس اللبناني يؤكد سيطرة الجيش على معظم جنوب لبنان و«تنظيفه»    المملكة: نرحب بتوقيع إعلان المبادئ بين حكومتي الكونغو ورواندا    المتحدث الأمني بوزارة الداخلية يؤكد دور الإعلام الرقمي في تعزيز الوعي والتوعية الأمنية    وزير الخارجية يستقبل نظيره الأردني ويستعرضان العلاقات وسبل تنميتها    ميرينو: سنفوز على باريس سان جيرمان في ملعبه    بمشاركة أكثر من 46 متسابقاً ومتسابقة .. ختام بطولة المملكة للتجديف الساحلي الشاطئي السريع    وزير الخارجية يستقبل نائب رئيس الوزراء وزير خارجية الأردن    رسمياً نادي نيوم بطلًا لدوري يلو    "مبادرة طريق مكة" تنطلق رحلتها الأولى من كراتشي    أمانة الشرقية تطلق أنشطة وبرامج لدعم مبادرة "السعودية الخضراء"    تدشين الهوية الجديدة لعيادة الأطفال لذوي الاحتياجات الخاصة وأطفال التوحد بجامعة الإمام عبد الرحمن    آل جابر يزور ويشيد بجهود جمعيه "سلام"    العمليات العقلية    هند الخطابي ورؤى الريمي.. إنجاز علمي لافت    ترامب وهارفارد والحرية الأكاديمية    "الشورى" يطالب "التلفزيون" بتطوير المحتوى    نائب أمير مكة يطلع على التقرير السنوي لمحافظة الطائف    في ذهاب نصف نهائي دوري أبطال أوروبا.. إنتر المتراجع ضيفًا على برشلونة المتوهج    خلال لقائه مع أعضاء مجلس اللوردات.. الربيعة: السعودية قدمت 134 مليار دولار مساعدات ل 172 دولة حول العالم    هجوم على الفاشر ومجزرة في أم درمان وضربات للبنية التحتية.. الجيش السوداني يُحبط خطة شاملة لميليشيا الدعم السريع    هيكل ودليل تنظيمي محدّث لوزارة الاستثمار.. مجلس الوزراء: الموافقة على تعديل نظام رسوم الأراضي البيضاء    حوار في ممرات الجامعة    "هيئة العناية بالحرمين": (243) بابًا للمسجد الحرام منها (5) أبواب رئيسة    مسؤولو الجامعة الإسلامية بالمالديف: المملكة قدمت نموذجاً راسخاً في دعم التعليم والدعوة    محمد بن ناصر يزف 8705 خريجين في جامعة جازان    إيلون ماسك يقلق الأطباء بتفوق الروبوتات    أسباب الشعور بالرمل في العين    نائب أمير منطقة مكة يستقبل محافظ الطائف ويطلع على عددًا من التقارير    تنوع جغرافي وفرص بيئية واعدة    أمير منطقة جازان يرعى حفل تخريج الدفعة ال20 من طلبة جامعة جازان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قوة الاستجابة تأتي بمقدار الإحساس بالحاجة
نشر في الرياض يوم 02 - 12 - 2012

الأصل في الريادات الخارقة أنها تخرق النسق السائد في المجتمع الذي تظهر فيه وتتجاوزه وتدعو إلى تطويره وتغيير أوضاعه أو تصحيح تصوراته أو الارتقاء باهتماماته أو إعادة ترتيب منظومة قيمه أو ابتكار أسلوب مغاير للسائد في أي مجال من مجالات الحياة فيه فكأنها تعلن قصور الأوضاع القائمة وتحث على تجاوزها أو تكشف خللاً يستوجب الإصلاح أو خطأً مزمناً يستحق التدارك أو تُدين جوراً عامًّا لايصح السكوت عليه أو تُعَرِّي فساداً واسعاً يؤذن بالتدهور أو تفضح تضليلاً يُفسد العقول وتتلوث به العواطف فيدفع نحو الجهالة والغلظة والتدابر والعنف وتوتير المجتمع وشل قدراته البانية أو تُحَلِّل تَحَجُّراً ثقافيًّا تتعطل به قابليات الناس الإيجابية أو تتبرمج هذه القابليات بما هو مدمِّر ومشتِّت بدلاً من اتجاه البناء والابتكار وقد تأتي الريادة خَرْقاً وتجاوزاً للسائد في مجال العلم أو فرع من فروعه أو في مجال الفنون أو في مجال التقنيات أو في مجال الإدارة أو غير ذلك من الاختراقات التي تنقد المألوف وتتجاوز السائد فالريادات هي حادية وحافزة التقدم لكن الإثمار والفاعلية تتوقف على تحقُّق الاستجابة الإيجابية الكافية..
ما أريد التوصل إليه هو أن التقدم في أي مجال ينهض على جناحين: جناح الريادة وجناح الاستجابة فإذا جاءت الاستجابة إيجابية وقوية وعامة فإن التقدم يتحقق بسرعة وفاعلية فالعائق الأكبر لتقدم الحضارة ليس هو الافتقار إلى الريادات الخارقة وإنما يعود هذا العجز إلى عدم قدرة المجتمعات على تفهم محتوى الريادات الخلاقة
ولأن الريادات الخلاقة في كل الأزمنة والأمكنة تأتي مغايرة للسائد فإنها تواجَه باستجابات سلبية مقاوِمة فتقابَل تلقائيًّا برفض عنيد صارم وربما خانق أو مستأصِل من قبل الأوضاع القائمة لكن في حالات نادرة قد تتضافر مجموعةٌ من العوامل فتأتي الاستجابة للريادة إيجابية وسريعة وقوية ومستمرة وهو الرد الإيجابي الفياض الذي قوبل به في أوروبا اختراع المطبعة في القرن الخامس عشر فقد كان اختراع الطباعة عملاً رياديًّا بالغ الأهمية وعظيم النفع وشديد التأثير فقوبل بترحيب حار لأنه اختراقٌ للسائد في مجال تقني محض وليس اختراقاً فكريًّا تستريب منه الأوضاع القائمة فقد كانت أوروبا تدرك أهميته الحاسمة فهي محتاجه إليه ومتعطشة لنتائجه الإيجابية العظيمة فكأنها كانت تنتظره فبادرتْ بالاستجابة له فالريادة هنا لم تحمل فكراً معارضاً للواقع لقد جاء الاختراع ليحقق حاجة ملحة وليس ليعارض أوضاعاً قائمة فجاءت الاستجابة عامة وسريعة وقوية..
إن المجتمعات الأوروبية كانت منذ العصر الإغريقي ومازالت مجتمعات قارئة ومتعطشة إلى المعرفة باستثناء فترة الانقطاع المظلمة الكئيبة في العصور الوسطى وكان الناس يعانون من عدم توفر الكتب كما كانوا يعانون من ارتفاع أثمانها إضافة إلى صعوبات القراءة لما هو مكتوبٌ بخط اليد وهو الوضع الذي كان سائداً قبل هذا الاختراع الرائع الفاتح وكما جاء في الجزء الأول من كتاب ( تاريخ الكتاب) للدكتور الكسندر ستيبتشفيتش: ( كانت الكتب غالية جدا فلم يتمكن من شرائها غير الحكام والأغنياء والأديرة والكنائس) وهذا يؤكد أن الناس من كل الفئات في أوروبا كانوا متلهفين إلى وسيلة تتوفر بها الكتب لتصبح في متناول الجميع لهذا جاءت الاستجابة إيجابية وقوية وعامة وبهذا التكامل العضوي بين الريادة والاستجابة فإن هذا الاختراع الفاصل قد فَتَحَ الآفاق في كل الاتجاهات وفي جميع المجالات وحقق للإنسانية وثبة هائلة في الأفكار والمعارف والوسائل وفَتَحَ أبواب الإنتاج والإبداع والتقدم في مجالات لم تكن معروفة من قبل وعلى سبيل المثال فإن فكرة الصحافة والجرائد لم تكن ممكنة قبل توفر الطباعة وكذلك تعميم التعليم بما يستوجبه من وفرة بالكتب بعدد أفواج الدارسين إلى غير ذلك مما لا حصر له من مقومات الحياة المعاصرة التي يسَّرتها الطباعة لقد كان اختراع المطبعة حَدَثاً خارقاً وفارقاً وكان بسبب قوة الاستجابة الإيجابية سريع الفاعلية وشامل التأثير فيسَّر سُبُلَ العلم وفَتَحَ آفاق العقل وأنهى احتكار المعرفة فجعل القراءة متاحة للجميع إن هذه العوامل قد جعلت الناس يرحبون بقوة بهذا الاختراع البسيط والعجيب فبه توفرت الكتب وصارت متاحة بأثمان زهيدة وبأشكال جميلة فباتت القراءة مُريحة وممتعة..
لذلك فإن الفيلسوف الإنجليزي فرانسيس بيكون يَعتبر أن اختراع الطباعة والبارود والبوصلة قد: ( غيَّر كل الأشياء في كل أنحاء العالم) أما الفيلسوف الفرنسي دي كوندرسيه فقد اعتبر أن اختراع الطباعة وابتكار الكتابة: من المعالم الأساسية لتقدم العقل البشري..
والمدهش في الأمر أن مخترع المطبعة الألماني يوحنا جوتنبرج بتأثيره العظيم في مجال المعرفة لم يكن من المشتغلين في مجال نسخ الكتب ولم يكن عمله ذا علاقة بها ولا بإنتاجها ولا بالتعلُّم والتعليم وإنما كان يعمل حدَّاداً لكنه بذكائه وفطنته ونفاذ بصيرته فطن لأهمية إيجاد وسيلة آلية لطباعة الكتب من أجل إنتاجها بالجملة بكميات كبيرة تتكفَّل بتلبية الطلب المتنامي على الكتب في أوروبا لأن هذه الوسيلة الآلية تُنهي رتابة النسخ اليدوي وكآبته وصعوباته وضآلة إنتاجه كما تُنهي احتكار المعرفة وتتيح نشر الأفكار والمعارف بسهولة وتستجيب لرغبة الباحثين عن الكتب. إن هذا الحداد الذكي أدرك الحاجة الإنسانية العامة الملحة فسعى لحلها وقد تمكن من اختراع المطبعة وقد جاء هذا الحل الباهر في وقت كانت أوروبا قد دبَّتْ فيها حياة العقل وبدأ توقُّد الأفكار وانتشارها فقد كانت حركة الإحياء قد بدأت في إيطاليا وكانت أفكار أبيلارد ودانتي وبترارك وغيرهم من الإنسانيين قد انتشرت وأحدثت في أوروبا تأثيراً كبيراً فكانت المجتمعات الأوروبية تتهيأ لطفرة فكرية عامة وعارمة..
إن يوحنا جوتنبرج صاحب هذا التأثير العام الجارف في المجال الثقافي والحضاري لم يكن من أصحاب الألقاب الأكاديمية ولا هو ممن قضوا السنوات في مقاعد التعليم المدرسي وإنما كان صاحب عقل متوقد فأحسَّ بالاحتياج الإنساني الملح فحقق للإنسانية مالم يحققه الملايين من خريجي الجامعات وحاملي الألقاب وقد جاءت الاستجابة له سريعة وشاملة وعارمة لأنه حين تمكن من اختراع المطبعة كانت أوروبا في حالة غليان فكري فلم يكن الاحتياج إلى الكتب محصوراً بفئة دون أخرى وإنما كانت كل الطبقات في كل المجتمعات الأوروبية وجميع فئاتها تهتم بما يوفر سُبُلَ القراءة ويتيح المعرفة ففي المجلد الخامس من كتاب ( تاريخ العالم) كتب جون روذنشتين يقول: ( كانت الحاجة ماسة إلى وسيلة سريعة كفيلة بنشر الآراء بسبب ذلك الاختمار الفكري الذي أثار حركة النهضة وأوشك أن يثير حركة الإصلاح الديني ولم يبلغ العباقرة المفكرون في عصر من العصور من الكثرة مابلغوه في ذلك الوقت) ويقول د. الكسندر ستيبتشفيتش في الجزء الثاني من كتابه ( تاريخ الكتاب): ( لقد استقبل معاصرو جوتنبرج اختراعه بحماس عظيم فقد أراد الجميعُ حينئذ.. رجالُ الإحياء والأمراء والكنيسة والمواطنون والجامعات الاستفادةَ من خيرات هذه الآلة الجديدة إن هذا الحماس العظيم لاختراع جوتنبرج يفسر في حَدِّ ذاته سرعة انتشار الطباعة في كل أرجاء أوروبا وكما لايحدث إلا نادراً في تاريخ الإنسانية فقد حظي اختراع جوتنبرج بالمساعدة الواسعة ولقي حُسْن التفهُّم لأن الجميع في ذلك الوقت كانو واعين إلى الأهمية الكبيرة لهذا الاختراع ولذلك كثيراً مانجد في العقود الأولى لتطور الطباعة الرأي المدوَّن بأن هذا الاختراع فضلٌ من الله وأنه عملٌ خارق جاء من السماء لخير الإنسان) وَوصَفَهُ مؤسِّسُ البروتستانتية مارتن لوثر بأنه ( أسمى هبات النعمة الإلهية) لقد كان اختراع المبطعة عاملاً حاسماً في تهيئة أوروبا لتتحرر من ركام عصور التحجر والجهل فانبلج فجر عصر النهضة وبدَّد ظلام العصور الوسطى فاتصلت شجرة الحضارة الأوروبية بجذورها الإغريقية..
تتحدث وثيقة تاريخية عن اختراع المطبعة صادرة عام 1499لتؤكد : ( إنه لمن الشرف العظيم للأمة الألمانية أن يولد بها أمثال هؤلاء العباقرة) لذلك فإنه كالعادة في ادعاءات السَّبْق لما هو عظيم ومجيد ادَّعت هولندا أن أحد مواطنيها هو صاحب الاختراع لكن الوقائع تنفي الادعاء وتؤكد أن المخترع الحقيقي هو الألماني يوحنا جوتنبرج فهو صاحب هذا المجد الشامخ ومع ذلك أقامت هولندا تمثالاً للهولندي لورنز جانزون كوستر ولكن المؤرخين والباحثين لايلتفتون لهذا الادعاء الهولندي لذلك بقي جوتنبرج في عداد أبرز العظماء الخالدين في التاريخ الإنساني..
ويشير جون روذنشتين إلى أنه بسبب الابتهاج الأوروبي العام بهذا الاختراع فإن فن الطباعة انتشر سريعاً في أوروبا كلها فاخترق كل الحدود خلال خمسة وثلاثين عاماً فقد كانت الاستجابة عامة وعارمة مما دفع الأثرياء إلى الاستثمار في هذا المجال الحيوي الجديد وَوَجَدَ المستثمرون في هذا المجال تيسيرات مشجعة من الحكومات ومن المؤسسات الثقافية مما جعل الطباعة تنضج بسرعة وكما يقول أحد المؤرخين: إنه مما يثير الدهشة حقًّا تلك الدقة البالغة وذلك الكمال الذي ظهرت به الكتب التي يُظَن عادة أنها باكورة الكتب المطبوعة..
فباختراع المطبعة وإحياء التراث الإغريقي نمت الحركة الإنسانية وظهرت النزعة الفردية وعمت المعرفة البازغة وتبلور وعيٌ أوروبيٌّ جديد فكان تأثير هذا الاختراع تأثيراً عميقاً وواسعاً وعظيماً فصارت أوروبا كما وصَفَها إيراسموس: ( فالعلم يولد من جديد والعالم يعود إلى العقل السليم والأدب الكريم يزدهر ثانية) لذلك لم يكن غريباً أن ينتهي الدكتور مايكل هارت بعد دراسته للتاريخ الإنساني بأن يجعل يوحنا جوتنبرج في كتابه ( المائة الأوائل) في المرتبة ( 8) ممن هم الأكثر تأثيراً في الحضارة الإنسانية بين عظماء التاريخ على امتداده وتنوع مجالات العظمة فيه فقد كان تأثيره سريعاً وقويًّا وعظيماً وشاملاً وممتداً في الزمان والمكان وكما كتب جون روذنشتين: كانت قصة الطباعة هي قصة النماء والتطور المستمر) ومثل ذلك جاء في المجلد الثالث من ( تاريخ الحضارات العام) الذي كتبه مجموعة من العلماء الفرنسيين بإشراف موريس كروزيه ففيه يقول: ( جاء اختراع الطباعة تنفيساً عن حاجة ملحة للحضارة وتحقيقاً لرغائب وآمال طالما تلجلجت بين ضلوع الإنسان ونهايةَ مطافٍ مكدود جهيد وقد جاء انتشار الاختراع التقني الجديد يشبع حاجات المجتمع وقد رحَّبَتْ الكنيسة ترحيباً حاراً باختراع الطباعة واعتبرته عربوناً للتحرر الفكري فكتب أسقف أوغسبورغ: كانت الطباعة نوراً لهذا العصر) هكذا كانت الاستجابة الأوروبية لهذه الريادة الخارقة عامة وعارمة لأنها لا تتعارض مع أوضاع قائمة يراد لها الاستمرار وإنما هي فتحٌ تقني محايد قابلٌ بأن يُستخدَم للمزيد من الانغلاق أو لتحرير العقل وفك قيوده وحشْد طاقاته البانية..
إن ما أريد التوصل إليه هو أن التقدم في أي مجال ينهض على جناحين: جناح الريادة وجناح الاستجابة فإذا جاءت الاستجابة إيجابية وقوية وعامة فإن التقدم يتحقق بسرعة وفاعلية فالعائق الأكبر لتقدم الحضارة ليس هو الافتقار إلى الريادات الخارقة وإنما يعود هذا العجز إلى عدم قدرة المجتمعات على تفهم محتوى الريادات الخلاقة فالرواد الخارقون يظهرون في كل المجتمعات فيأتي الخلل من تخلف الاستجابة الإيجابية العامة وهنا لابد من مناقشة مايدعيه البعض من أن فكرة الطباعة قد ظهرت قديماً في الصين بينما الحقيقة أن ما ظَهَرَ في الصين لايختلف عن فكرة الأختام المعروفة في كل المجتمعات أما الطباعة فهي تقنية جديدة كل الجدة فالحروف منفصلة ومتحركة إنها اختراع عجيب وقد كان اختراعاً مذهلاً عندما ظَهَرَ لأول مرة ومن المؤكد أنه ليس ممكناً أن يظهر مثل هذا الاختراع إلا في مجتمع قارئ فقد أوحَتْ به الحاجة ودعت إليه البيئة فلن يفكر فيه أي مخترع صيني مثلاً ولو ظهر في الصين فلن يلتفت له أحد لأن المجتمع الصيني لم يكن آنذاك مجتمعاً قارئاً ولم يكن متطلعاً لوسيلة تؤدي إلى توفير المعرفة المكتوبة فالمجتمعات الشرقية هي غالباً مجتمعات مشافهة لذلك بقيتْ فكرة الألواح المعروفة قديماً في الصين امتداداً لفكرة الأختام وظلت في حدود ما أُوجدتْ له ولم تتطور ولم ينتج عنها أي تغيُّر ثقافي فاعل..
ففكرة المطبعة هي قفزة نوعية مدهشة وقد ظهرت في بيئة متعطشة للمعرفة لذلك فإن اختراع المطبعة في أوروبا قد أحدث طفرة شاملة عمَّتْ كل المجالات المعرفية والاجتماعية والسياسية وهنا يظهر التكامل العضوي بين الريادة والاستجابة ويعود ذلك إلى الجذور العميقة للفكر الفلسفي العقلاني في الثقافات الأوروبية وشيوع الشغف بالقراءة واهتمام الناس بالبحث عن الحقيقة الموضوعية بوصفها قيمة محورية في تلك الثقافات فهذه العوامل مجتمعة هي التي منحت اختراع المطبعة في أوروبا كل هذه الأهمية فالناس هناك كانوا يبحثون عن الجديد والمغاير من الأفكار والمعارف والمفاهيم والتصورات مما أثمر هذه الطفرة الحضارية الهائلة لذلك فإن جون روذنشتين في الفصل الذي كتبه عن هذا الحدث المحوري ضمن كتاب ( تاريخ العالم) يقول : ( تتوقف سرعة تقدم الحضارة على مدى السهولة أو الصعوبة التي يتم بها تبادل المعرفة على اختلاف أنواعها.. والطباعة أبعدُ الوسائل أثراً في تبادل المعرفة والاحتفاظ بها ويرجع إلى اختراعها فضلُ الازدياد المفاجئ في سرعة تقدم الحضارة الأوروبية) لقد جاءت ثمار هذا الاختراع المفصلي في أوروبا ثرية وعظيمة ومتنوعة وشاملة..
لكن هذه النتيجة الباهرة التي تحققت في أوروبا باختراع المطبعة مرتَهَنة باتجاه التفكير السائد في المجتمع فلو جاء هذا الاختراع في مجتمعات تعتمد ثقافة المشافهة أو غير شغوفة بالقراءة أو ضمن ثقافة منغلقة ومكبلة بادعاءات الكمال والاكتفاء وتتحرك باتجاه مقاومة الأفكار الطارئة فلن يهتم به أحدٌ أو تصير النتائج عكسية تماماً فيجري غمْر المجتمع بكتب تُكَرِّسُ الأوضاع القائمة وتُرَسِّخُ التصورات السائدة وتهاجم الأفكار الوافدة فأوروبا حالة استثنائية لذلك صار لهذا الاختراع كل هذا التأثير العظيم الشامل ومما يؤكد ذلك أن الطباعة قد انتقلت منذ قرون من أوروبا إلى كل القارات فما صارت حافزاً على التغيير والتقدم في الكثير من المجتمعات المتخلفة وإنما صارت عوناً كبيراً للمزيد من النكوص وتأصيل الواقع المتحجر وساعدَتْ كثيراً في نَشْر طوفان كُتُبٍ تتعارض مع الحضارة المعاصرة وتهاجم الفكر الحديث فكل شيء نُمُوُّه من جنسه لذلك بقيتْ المجتمعات المتخلفة تزداد تخلفاً رغم تجسيدات تجارب الازدهار في الشرق والغرب ووفْرة الكتب العلمية والفكرية الحديثة وجاهزية مقومات كل ماتحقَّق في العالم من تقدم مذهل في كل المجالات..
أما في العالم الغربي فإن الاستجابة تختلف نوعيًّا لقد تحققت الاستفادة من هذا الاختراع بسرعة ووفرة ثم ظل الغرب يكرر تمجيد هذا الرائد العظيم يوحنا جوتنبرج ويشيد بدوره الثوري إلى درجة أن عالم الاجتماع الكندي هربرت مارشال ماكليوين ألَّف كتاباً بعنوان: ( مجرَّة جوتنبرج) فقد اعتبر أن الإنسانية كلها بقيتْ تنهل مما أثمره اختراع المطبعة منذ اختراعها حتى حلَّ الكمبيوتر محل الطباعة وهو صاحب مقولة ( القرية الكونية) وقد لقي الكتاب اهتماماً عالميًّا واسعاً واكتسب المؤلف بسببه شهرة واسعة ومكانة عالمية..
ومنذ صدور كتابه تداول أفكاره باحثون كثيرون من مجالات علمية متنوعة وحذا حذوه آخرون فصدر كتاب مهم يتحدث عن ثورة الطباعة والوسائط الأخرى وعنوانه ذو دلالة واضحة: ( من جوتنبرج إلى الإنترنت) وقد ألَّفه أكاديميان هما آسا بريجز وبيتر يورك وقد بيَّنا الدور الأساسي للطباعة في إنجاح حركة الإصلاح التي قام بها مارتن لوثر فوفرة الكتب وسرعة تداول الأفكار: ( حوَّلَتْ حركة الإصلاح إلى ثورة دائمة فتعذر إسكات لوثر) وليست هذه سوى إحدى النتائج الكبرى لاختراع المطبعة..
ورغم كل ماقيل في تبجيل هذا المخترع ماضياً وحاضراً فإن المؤرخة الأمريكية اليزابيث إيزاينشتاين ترى: ( أن الطباعة كانت الثورة المغبونة وأن دورها كفاعل تغيير لم يأخذ حقه الواجب من التقدير) فهي تَعتبر أن الطباعة هي التي مهَّدت لولادة أوروبا الجديدة الصاعدة وهي التي استمرت تواصل إشعالها بالأفكار وإمدادها بوسائل النمو والفاعلية فالطباعة كانت العامل الأهم في حدوث النهضة وفي حركة الإصلاح وفي الثورة العلمية وفي تدفق الأنهار المعرفية العظيمة وفي النتائج التقنية المذهلة التي تمخضت عنها..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.