"في تورينو، الثالث من يناير 1889م، يخرج الفيلسوف الألماني فريديريك نيتشه من المنزل السادس إلى كارلو ألبيرتو، ربما ليأخذ نزهة، وربما ليمر على مكتب البريد حتى يستلم رسائله، وفي مكان ليس بعيداً عنه، أو هو بعيد في الحقيقة، يعاني سائق مركبة إيجار من حصانه العنيد، ورغم كل إلحاحه إلا أن الحصان يأبى أن يتحرك، وعندئذ فإن السائق - جوزيبي، كارلو، إيتوري - يفقد صبره ويخرج السوط ليجلده، يصل نيتشه إلى هذا المكان ويضع حداً لهذا المشهد الوحشي للسائق الذي كان يغلي من الغيظ في هذه الأثناء، ويقفز فجأة إلى العربة، وبالرغم من مظهره القاسي فإن نيتشه يحيط رقبة الحصان بكلتا يديه ويأخذ بالبكاء، يأخذه جاره إلى المنزل، حيث يستلقي لمدة يومين على الأريكة صامتاً وهادئاً، حتى يتمتم أخيراً بآخر كلماته "أماه، أنا أحمق"، عاش نيتشه بعد ذلك عشر سنوات أخرى مضطرباً وهادئاً في رعاية أمه واخوته أما الحصان فإننا لا نعلم عنه شيئاً". بيلا تار بهذه القصة التي يمكن البحث عن جذورها في الكتب التي تعرضت لسيرة حياة نيتشه في آخر حياته، يفتتح المخرج المجري "بيلا تار" فيلمه الأخير "حصان تورينو - A torinoi lo"، الذي بدأت فكرته مبكراً منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي، إذ سمع "تار" قصة حصان نيتشه من "لازلو كرازنهوركاي" صديقه وكاتب السيناريو الذي دائماً ما يكون الرجل الذي يحاول إقناع المنتجين بدفع أموالهم ليصنع "تار" فيلماً سينمائياً عظيماً وكابوساً مريعاً للمنتجين الذين يعلمون أزمة "تار" الجماهيرية. في عام 1990م، كتب "تار" بمشاركة "كرازنهوركاي "، قصة مختصرة لما يريدان تقديمه في فيلم يحاول استثمار قصة الفيلسوف الأوروبي الأبرز في القرن التاسع عشر "نيتشه"، لكن "تار" نحاه جانباً واشتغل على فيلمه الطويل ذي السبع ساعات والقائم على رواية كرازنهوركاي "تانغو الشيطان - Satantango" عام 1994م، ثم قدم فيلمين بعده، كان أولهما "إيقاعات فركمايستر - Werckmeister harmóniák" عام 2000م، ثم "الرجل من لندن - A londoni férfi" عام 2007م والذي كرهه الكثيرون عندما تم عرضه في مهرجان "كان" لكنه نافح عبر مراجعات نقدية متعددة رأت فيه امتداداً لمدرسة فنية مميزة يشتغل عليها "تار" متابعاً فيها أيقونات سينمائية راحلة مثل "بيرغمان"، و"تاركوفسكي"، أو حاضرة مثل مواطنه "ميكلوس جانكسو" والمتأثر به "غس فان سات"، إلا أن هذا الفيلم كان ثقلاً بارزاً على كاهل "تار" الذي حاول في آخر أعماله أن يقدم فكرته التي نضجت عبر الوقت معه في محاولة فهم النفس البشرية عبر ما سماه "ثقل النفس البشرية"، فالأمر لم يعد بالنسبة له محاولة إصلاح العالم، وإنما من خلال إدراك الوجود الإنساني ومقدار ما تنوء به محاولاته الاستمرار في إيجاد معنى عام لكل ما يقوم به. هنا في هذا الفيلم يقودنا "تار" منطلقاً من قصة نيتشه ذات الحس العدمي البائس لمعنى الانهيار الهائل لفيلسوف طافت أفكاره المتطرفة والعنصرية أرجاء الأرض ليقع فريسة موقف قد يراه البعض عادياً، بينما هو في عمقه الأكثر حضوراً في ذات مرهفة دلالة عميقة على الانحطاط، انعدام الأمل في الإنسان، الذي يبدو أنه مسؤول عن استجلاب الكارثة الكبرى، إذ تتحرك كاميرا تار ذات الألوان الحدية والقاطعة "الأبيض والأسود" كعادته في تتبع الحصان الذي يقوده العجوز الذي يحمل ملامح "نيتشه"، ليصل إلى منزله الذي يحوي بيتاً وإسطبلاً وبئراً، تستقبله ابنته التي لا تتجاذب معه الحديث في علاقة رتيبة وذات روتين دوري يتكرر يومياً، ذلك النمط من الحياة التي يظهر فيها العطب سريعاً مع تغير مسارها، تلك الحياة البيضاء التي يظهر السواد فيها بسهولة، فذلك العجوز "أهولسدورفر" بذراعه اليمنى المشلولة وابنته الوحيدة يمارسان نفس الطقوس يومياً، الاستيقاظ، ارتداء الملابس، جلب المياه من البئر، وجبة البطاطا المسلوقة والتي يأكلونها بأيديهم وأبخرتها الحارة تتصاعد، كأس البالينكا اليتيم، لكن الأمور تبدأ بالتبدل على نحو ما يمكن أن نصفه بالأيام الأخيرة للإنسان، فالحصان يبدأ رفض الطعام والشراب، ثم تزداد العواصف والرياح التي لا تتوقف منذ بداية الفيلم وحتى نهايته في توازٍ مدهش مع موسيقى "ميهالي فيج" في أسلوب الميناليزم الذي يؤكد هوية التكرار والاستمرار في الأحداث السابقة. تبدأ الأحداث في التبدل الحاد مع زيارة أحد الجيران، الذي يقدم مقطوعة فلسفية طويلة عن فساد الأشياء لكنه لا يتبع منهج نيتشه في فناء الميتافيزيقيا بل يحمل الإنسان وزر الفساد كذلك، لكن العجوز يسكته بأن كلامه هراء، ثم لا تلبث البئر أن تجف، ما يدفع العجوز لهجر منزله، لكنه يعود دون أن نعرف لماذا، ثم تتوقف مصابيح الزيت عن الإضاءة، لينتهي الفيلم الذي يعرض الأحداث في ستة أيام لها دلالاتها اللاهوتية والفكرية التي أراد "تار" أن يترك لنا اكتشاف بعضها هنا وهناك، عبر رسمه للمشاهد بهدوء بالغ معتنياً بكل التفاصيل التي يهتم لها جيداً، في ثلاثين لقطة طويلة صورها "فرد كيلمين" لفيلم مدته 146 دقيقة، الأمر الذي سيقدره كثيراً عشاق "بيلا تار"، لكنه سيكون بمثابة اختبار صعب لجمهور حديث لم يعتد أفلامه وسينماه الفنية جداً. على الرغم من أن "بيلا تار" لا يغوص كثيراً في اكتشاف شخصياته ولا يتعاطف معها، بقدر ما يروي وقائع حياتها بأمانة بالغة، فإنه يحشد تفاصيله بإشارات كثيرة، منها مثلاً رفض الحصان للأكل والشرب وكأن شيئاً من كرامة بشرية انتقل له من خلال عناق نيتشه، ذلك الشبه الظاهري بين العجوز ونيتشه، في مناقضة لتعاطي كل منهما لفعل واحد، الشخصية الثالثة جارهم الذي جاء لشراء "البالينكا" المحلي، يطرح رؤية فلسفية قريبة من أفكار نيتشه، حتى الكتاب الذي يهديه عجوز الغجر الذين توقفوا للشرب من بئر العجوز، عندما تقرأه ابنة "أهولدسورفر" يحمل عنوان "نقيض الإنجيل"، كل ذلك في بيئة موحشة توحي بخواء شديد وثقل بالغ للأشياء، وتجريد عنيف لمظاهر الحياة. فريديريك نيتشه الفيلم يدور في ثيمات معتادة من أفلام "تار" السابقة، الموت والتعاطف والهم الإنساني القريب من الثقل الفيزيائي، نوع من الأغلال التي ترزح الروح في قيدها، لكنه هذه المرة يقدم ثيماته من خلال فصول الأيام الأخيرة للإنسان الذي استبشر به الفيلسوف في تحوله إلى الإنسان الأعلى ثم أصبح نزيل مصحة عقلية صامتاً إلا من صدى آخر كلماته "أماه، أنا أحمق".