غرفة مكة المكرمة تعزز دور القطاع الخاص لتحسين تجربة ضيوف الرحمن    تعليم الطائف يعقد الاجتماع الأول للجنة الشراكات والاتفاقات    كوشنر: تسوية ملف مقاتلي حماس في رفح مدخل للانتقال إلى المرحلة الثانية    الطاقة تُحلّق في فضاءات الذكاء الاصطناعي 3/2    "أمانة حائل" تحصد جائزة الشمولية الرقمية    استبعاد تمبكتي من معسكر الأخضر.. واستدعاء الشهراني وكادش    المدرهم يطير ببرونزية الأثقال في إسلامية الرياض 2025    ناجلزمان: لا وقت للتجارب وهدفنا التأهل للمونديال    سوق الأسهم يواصل التراجع تحت ضغوط النفط وتراجع السيولة    «الشورى» يدعو مركز المناطق الاقتصادية في الرياض لاستكمال البناء المؤسسي والخطة الإستراتيجية    ضبط 21647 مخالفاً للإقامة والعمل وأمن الحدود    «التواصل الحضاري» ينظّم ملتقى التسامح    95 مليون ريال لصيانة ونظافة وتشغيل 1400 مسجد وجامع في المملكة    تعاون سعودي- إماراتي لمكافحة جرائم الفساد    أكد أن المنظومة تشهد تحولاً نوعياً.. وزير البلديات: تشغيل ذكي وإدارة رقمية لخدمة ضيوف الرحمن    لجان الكرة وقرارات غائبة أو متأخرة    شلوتربيك أولوية لبرشلونة في يناير    في ختام دور المجموعات بمونديال الناشئين 2025.. الأخضر يواجه نظيره المالي للعبور لدور ال 32    الديوان الملكي: وفاة وفاء بنت بندر    وسط ضغوط على المرحلة الثانية من اتفاق غزة.. الاحتلال يمنع خروج المحاصرين في أنفاق رفح    علامات تكشف مقاطع الفيديو المولدة بال AI    خادم الحرمين يدعو لإقامة صلاة الاستسقاء الخميس    تحت رعاية ولي العهد.. تنظيم المؤتمر العدلي الدولي الثاني بالرياض    تحت رعاية سمو ولي العهد.. وزارة العدل تُنظم المؤتمر العدلي الدولي الثاني 23 نوفمبر في الرياض    أمريكي يبحر 95 كيلومتراً داخل يقطينة    يوثق التحولات التاريخية والحضارية للمشاعر.. «الدارة» تطلق ملتقى تاريخ الحج والحرمين    وعكة صحية تدخل محمد صبحي المستشفى    1.7 مليون دولار تعويضاً على تنمر النظارات    ثمن دعم القيادة الرشيدة للقطاع.. العوهلي: 24.89 % ارتفاع توطين الإنفاق العسكري    يتباهون بما لا يملكون    تقديراً لجهودها في إبراز خدمات المملكة لضيوف الرحمن.. نائب أمير مكة يكرم وزارة الإعلام بمؤتمر الحج    ممرض ألماني يخدر المرضى ليهنأ بليلة هادئة    موانع حمل للرجال (1)!!؟    الأخضر تحت 19 عاماً يدشن تدريباته في معسكر الأحساء استعداداً لكأس آسيا    خديعة القيمة المعنوية    أزمة الأطباء الإداريين    المملكة وسورية.. شراكة ومستقبل مزدهر    «الرياض الصحي»: البحث العلمي شريكٌ محوري في التحول الصحي    القصيم: فرع الشؤون الإسلامية يُتعامل مع 1169 بلاغًا خلال الربع الثالث    رئيس جامعة جازان يطلق منصة "ركز" للاستثمار المعرفي    "مسام" ينزع (1.044) لغمًا من الأراضي اليمنية خلال أسبوع    البنيان يرعى «التعليم المنافس» في «الملك سعود»    «سعود الطبية» تعيد الحركة لمفصل كوع بعد 10 أعوام من العجز    إصابة جديدة في تدريبات المنتخب السعودي    تصاعد أرقام نازحي السودان    مفاوضات عالقة والاحتلال يتعنت    جامعة أمِّ القُرى الشَّريك المعرفي والابتكاري لمؤتمر ومعرض الحج في نسخته الخامسة    مطالبة المناطق الاقتصادية بالرياض باستكمال البناء المؤسسي    الحقيل: منظومة البلديات تنتقل إلى التشغيل الذكي لخدمة ضيوف الرحمن    رجال أمن الحرمين قصص نجاح تروى للتاريخ    نائب أمير المنطقة الشرقية يستقبل مدير فرع الهيئة العامة لتنظيم الإعلام بالمنطقة    مكتبة الملك عبدالعزيز العامة ذاكرة بصرية لتأريخ الحج وعمارة الحرمين    إنفاذًا لأمر خادم الحرمين الشريفين.. رئيس هيئة الأركان العامة يُقلِّد رئيس هيئة الأركان المشتركة الباكستاني وسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الممتازة    إنفاذاً لأمر خادم الحرمين الشريفين.. منح رئيس «الأركان» الباكستاني وسام الملك عبدالعزيز    أمير نجران يلتقي مدير فرع «عقارات الدولة»    فهد بن سلطان: هيئة كبار العلماء لها جهود علمية ودعوية في بيان وسطية الإسلام    تناولوا الزنجبيل بحذر!    أمير تبوك يستقبل عضو هيئة كبار العلماء الشيخ يوسف بن سعيد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المثقف بين شقاءين: شقاء الوعي.. وشقاء النبذ!
نشر في الرياض يوم 06 - 06 - 2005

للخروج من فوضى المصطلحات، تبدو الحاجة ماسة جداً، للتذكير بأهمية تحرير مفهوم المثقف العربي من مستوى التعايش مع أو التعيش بالثقافة إلى مستوى ان يكون المصطلح تعبيراً عن شرف وضمير المثقف.
وحتى لا يبدو هذا الحديث هائماً مستغرقاً في بكائية تطال المثقف، وقد تحرق المزيد من البخور حول أدواره، على القارئ الكريم ان يدرك ان المعني هنا بالمثقف هو الضمير الذي يجسد عذابات وآلام وحاجات واحتجاجات الإنسان ولا شيء سواه.
أصاب مصطلح المثقف العربي التزييف، كما اصاب مناحيَ كثيرة في حياة العربي اليوم، ومن المهم التذكير قبل ان نتحدث عن شقاء المثقف، ان نذكر بأن هذا المثقف لا يمكن اكتشاف ملامحه دون ان تُبلى الثقافة المحلية وتتعرض لفرز دقيق، ولا بد ان نتذكر تاريخية هذا المصطلح ومفهومه الوافد، الذي أسقط اليوم على كل مشتغل بالعلم أو قارىء للادب أو مسخر لادوات المعرفة لخدمة كل شيء سوى ضمير الإنسان المحتج على مبلغ الاذى الذي اصاب الثقافة وعلى يد كل اولئك الذين يمكن ان يطلق عليهم أي وصف يستحقونه سوى ان يكونوا مثقفين.
هذا المصطلح المهيمن على حالة الثقافة محلياً وعربياً، يغيب بقصد أو بدونه، المرجعية التاريخية، والمفهومية للمثقف العضوي، حتى لم يعد من السهل ان تفرق بين اكاديمي أو باحث أو فنان أو مبدع أو كاتب أو عالم وبين المثقف العضوي.. الذي يعمل خارج كل ادواته المعرفية أو الابداعية أو من خلالها في قضايا الشأن العام، وليس هذا فقط، ولكنه يجسد الضمير الحي الذي يتلمس وجه الإنسان ولا سواه.. مهما بلغت قسوة الظروف ومهما بلغت محفزات الترحل ومهما بلغت معوقات العمل ومهما بدت تراكمات التخذيل والتيئيس.
تزييف ذاكرة الناس ووعيهم، ومن خلال ادوات معرفية يتم توظيفها بحذاقة أو بدون، هي أخطر ما يمارسه محترفو العمل الثقافي، وكم تبدو بعض النماذج هذه الايام بالغة الأذى، وهي ترصد حالات تتوسل بالذخيرة المعرفية أو القدرة على التحليل لتصل إلى حالة لا يقصد بها سوى شل عقل عن اكتشاف مصدر اشكاله الحقيقي، لنحيل قضايا حقوق عامة وأساسية وجوهرية إلى صراع مكشوف على افرازات ثقافة، ولنحيل اشكال كبير كالاستبداد بكل أشكاله إلى حالة قبول بالضرر التاريخي من اجل السلامة من ضرر متخيل أو موهوم.. وهكذا في سلسلة من حالات سقوط ذريع تكشف عن حالة مستعصية. سوق واسعة يعمل فيها المثقف بالوكالة، حتى ليبدو بحق جزءاً من المشكلة لا طرفاً يمكن التوسل به لإطفاء حرائق اليومي أو تمهيداً لطريق تبدو ملامحه اكثر وضوحاً للسالكين.
أزمة المثقف العربي، ليست أزمة علاقته بالسلطة - بكل اشكالها - فقط، التي تحيل إليها كثير من القراءات، انها أزمة ضمير بالدرجة الاولى، وعندما يعشعش هذا الخراب بالضمير، لا غرابة ان يكون المثقف أداة تزوير لذاكرة متلقّ، وهو يراهن عن انها ذاكرة قصيرة بل ومعطوبة احيانا. شاهدوا بعيون مفتوحة هذا اللغو الثقافي، الذي ينشط بكل قواه لإدانة خصم داخلي أو خارجي، ويجلب كل أدواته المعرفية والقياسية لكنه يجبن أو يزور ذاكرة مشاهد وهو يحجم عن إدانة مصدر العطب الحقيقي.
في الحالة العربية يتبدى مثال صارخ لهذا النوع من التزوير المتعمد، وبدلاً من ان تكون قضية المثقف مواجهة آفة الاستبداد السلطوي، وأنماط القمع، وإلغاء الحياة السياسية، وتلمس الحق الطبيعي بحياة كريمة وحريات طبيعية وخيارات إنسانية.. توجه الانظار إلى الحالة الدولية الاستعمارية ومؤامرات الدول النافذة، والصراع العربي - الاسرائيلي، في كلام شعاراتي لا يطعم جائعا ولا ينقذ متشرداً ولا يفي بحاجة الإنسان إلى مقومات الحياة. وعندما تصبح قضية الدفاع عن الحريات الاساسية والدعوة إلى الالتزام بنظام حقوقي وقانوني معترف به يعيد للإنسان العربي بعض ملامحه التي سلبها الخوف وأعطبتها كل أشكال المحاصرة اليومية وأنظمة القمع البوليسية تصبح طابوراً خامساً وعميلاً خطيراً وداعية للتدخل الاجنبي القذر. لكن سرعان ما تصبح العلاقة مع الآخر دعوات للتسامح والكف عن الاستعداء والتعامل بحضارة مع المنجز الغربي بكل اشكاله المفيدة، واشكاله المفيدة يحددها مثقف انتهازي، فهو بالامس يدين الطابور الخامس الهلامي المتآمر المتحالف مع القوى الاستعمارية التي لبست ثوبها الجديد تحت شعارات الشرق الاوسط الكبير، واليوم يبشر بثقافة التسامح والتعاون حسب مقاييس لا علاقة لها بضمير مثقف أو وجه إنسان.
ليست المشكلة في ترحل الثقافي، فتلك الحالة التي اطلق عليها محمد عابد الجابري (الترحال الثقافي) ويقصد بها انتقال المثقف العربي من ايديولوجيا إلى ايديولوجيا أخرى مناقضة من خلال عملية انقلاب فجائية وغير مبررة.. يمكن فهمها اذا ما كانت تقوم على معاودة قراءة مرحلة وإعادة تقييمها ومحاكمة منطلقاتها وكثير من المثقفين عاشوا حالة ترحل قد لا تكون فجائية لكنها كانت تمثل انعطافة لها ما يبررها، ولها وزنها في ميزان الحق أو عدالة الاكتشاف.. المشكلة في الترحل الانتهازي، المشكلة في البيات الطويل للضمير، الذي لا يستيقظ الا ضمن معادلة الدفاع بالوكالة، المشكلة في التناقض الفظيع بين ضمير مثقف وتبرير مترحل، المشكلة في استغراق مثقف في لجة صراع من اجل عدالة قضية صغيرة مع خصم صغير، ثم الترحل لتبرير تعسف كبير دون شعور بأدنى درجة من عذابات الضمير أو انتهازية المقياسات التي لا تعنى بمنهجية معرفية أو اخلاقية هي سمة المثقف وعنوانه الأبرز. المشكلة في مقاولي الأفكار الذين لا يتوانون لحظة في استخدام ذخيرتهم المعرفية أو استحضار شهاداتهم المتناقضة لتخذيل حلم صغير أو وأد جنين ينمو ببطء، فإما ان يموت قبل ان يولد أو يولد مشوهاً بلا ملامح أو تفاصيل الحلم.
في مثل هذه الاجواء، تتعزز فرص الفرز والاقصاء، وقد يجد المثقف نفسه شقيا بوعيه وشقيا بما آل اليه من نبذ واقصاء. سواء انتبذ نفسه أو نبذه مجتمع يقلقه التعاطي معه. وفي ادواء الانتهازية الثقافية تصبح العوامل الضاغطة على مزاج ونفس المثقف الحر اكبر تأثيراً، مما يدفعه احياناً باختياره إلى عزلة قاتلة قد تكون نوعا من الانتحار الثقافي احيانا. ولذا لا غرابة ان نبحث عن اسماء كثيرة كان لها بريق في عالم الكلمة والحراك الثقافي والابداع المعرفي الذي يعمل وينشط ضمن نسق المثقف وشروطه في مرحلة ماضية، فلا نعرف كيف اختفت وإلى اين رحلت أو في أي عالم هي.
من القسوة وغير المألوف ان يكون الإنسان شقياً بوعيه، ومن محرضات الغياب الطويل الصامت المحتج هذه العزلة التي يختارها مثقف لنفسه طوعاً او قسراً.
كرد فعل على تردي الحياة الثقافية والفكرية، يؤثر بعض المثقفين ان يتخذوا موقفاً انعزالياً بعيداً عن المشاركة في صخب اليومي، بعيداً عن المحافل أو المنتديات الادبية أو الفكرية أو الثقافية التي يسيل لها لعاب الكثيرين من محترفي ممارسة الترفيه للفكر.. والجوعى دائماً لاضوائها المبهرة.. وهذه العزلة تبدو نوعاً من الاحتجاج الصامت.. إلا ان مداها قد يصل إلى حياة انعزالية - شبه انتحارية - على مستوى الحياة المادية والمعنوية.
انه سلوك لا يحمل سوى معنى واحد، انه رد فعل على كل ما هو مزيف أو دعائي فج أو مبتذل في الحياة الثقافية، أو نوع من الوصول إلى حالة من اليأس القاتل عن امكانية خدش جدار صلد، من خلال صوت لم يعد يعني الكثيرين، أو نوع من الانكفاء على حلم، سرقته كل عوامل الانحباس وشوهت ملامحه معاول وأدوات المترحلين. أو قد يكون نوعاً من العقاب الذاتي عن تاريخية مجهود نضالي، لم يكتشف المثقف المغدور سوى انه كان اداة لحلم سلطوي ما ان تمكن من مقاليد السلطة وادواتها، حتى انتهك كل قيمة ثقافية أو معنى قاتل من اجله مثقف حر. انه عقاب ذاتي كما يبدو في كثير من الاحيان احتجاجاً صامتاً أليماً. وتلك العزلة كلما طالت أيامها وتوالت لياليها تصبح حالة من السائد المألوف بكل آلامها ومعاناتها. حتى اذا ما حاول ذلك المثقف المعتزل الخروج لعالم الاحياء - الاموات، عاد لينكفىء على نفسه مرة أخرى، فأنى له ان يستبدل ذاكرته أو يغير جلده الذي حافظت على نقاوته عزلته أو أن يترحل ثقافياً.. وهو النبض الأخير في ملامح مرحلة لم يعد يعنيه ان تمضي بقيتها في غياهب العزلة أو المجهول.
الوعي نعمة، وقد تكون العزلة فرصة مواتية لمواصلة المزيد من التأمل والتفكير.. إلا ان هذا الوعي وان كان نعمة في مجتمع ثقافي يملك الادوات التي تعين على اكتشاف قيمته، ولديه القدرة على التفاعل مع رموزه، واستقبال حرارته بما يثير الحياة في مفاصله.. إلا انه ممارسة مضنية ومكابدة شقية، اذا اختزن فقط في عقل مثقف قلقاً وتوتراً متواصلاً.. ولم يتحول إلى طاقة منتجة لمزيد من الحراك الاجتماعي والثقافي الفعال والمنتج... وكذلك هي العزلة التي قد تتحول من كونها حالة انقطاع للتوحد مع الذات واستلهام وميض الكفر الشاردة، إلى منفى احتجاجي لا يخلو من شقاء وتعاسة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.