كل مرة أزور فيها منطقة من مناطق المملكة أكتشف جهلي بهذا البلد الجميل الذي يستحق منا أن نكتشفه، بلد تتنوع فيه "الطوبوغرافيا" بشكل مذهل وقليل منا يعرف هذا، حتى من يعتبرون أنفسهم مثقفين وباحثين، والحقيقة هي أننا لم نكتشف بلادنا بعد، وهذه هي المشكلة الكبيرة، ولم نتعرف على جغرافياتها الرائعة التي تشكل "موازييك" يجمع بين الصحراء والجبال والسهول والأودية والسواحل والواحات، تنوع ثرى وخلاق قلما نجده في مكان آخر، ومع ذلك نحن لا نعرف كل ما نملكه من طبيعة ومن ثقافة ومن تجربة إنسانية ومن عمارة تراثية خلاقة. الحقيقة هي أننا لم نكتشف بلادنا بعد، وهذه هي المشكلة الكبيرة، ولم نتعرف على جغرافياتها الرائعة التي تشكل «موازييك» يجمع بين الصحراء والجبال والسهول والأودية والسواحل والواحات، تنوع ثرى وخلاق قلما نجده في مكان آخر من زار عسير لابد أنه فوجئ بالجمال الساحر الذي تشكله الجبال والأودية، لابد أنه توقف حائرا أمام العقبات الشاهقة وتساءل كيف استطاع ابناء المنطقة التعايش مع هذه الجبال القاسية لكنه عندما يجد على السفوح المساحات الخضراء الممتدة إلى ما لا نهاية ويرى القرى متناثرة ومتداخلة مع الجبال والسهول يعرف أن تلك الجبال كانت تجلب الخيرات للناس كل موسم، كانت تعطيهم الحياة. في نجران تختلط الجبال مع الصحراء ويشق وادي نجران طريقه عبر المدينة ليصنع فضاء عبقريا من نوع خاص، تتشكل البلدات بين الجبل والصحراء وعلى ضفاف الوادي لتذكرنا بحضارة الأخدود، وفي ضبا والوجه والحقل وأملج في الشمال بالقرب من تبوك يظهر الجمال الطبيعي العذري، بلدات على الساحل لكنها أصبحت جزءا من لغته التي يخاطبنا بها. والصحراء بكل أسرارها تدفعنا لحائل بأماكنها التي تمثل "حكايات عربية لا تنسى"، فالنفود كانت هي الفضاء المفتوح الساحر لأبناء الشمال، وفي وادي حنيفة تبدأ سلسلة من الطبقات الصخرية المنحوتة بإتقان وكأنها نحتت بيد فنان، وعلى أطرافها واحات النخيل. بلاد جميلة لا مثيل لها، ففي مسقط الرأس الأحساء، تظهر الواحة لتتحدى الربع الخالي، وتبدو ينابيع المياه كمقابل للفضاء الموغل في التصحر. أتوق فعلا لإكتشاف بلادي الساحرة، فالمكان فيها يمثل طبقات متراكمة من تاريخ طويل ومن القصص والحكايات التي تحتاج منا أن نكتشفها ونتعلمها. مبادرة البعد الحضاري التي أطلقها سمو رئيس السياحة قبل عدة أيام، تعبر عن هذه الرغبة في اكتشاف المملكة، وتؤكد على أننا بلد غني بحضارته وبمقدرته على التعامل مع كل الظروف، فشخصية هذه البلاد راسخة في أرضها، فبلادنا ساحرة جغرافيا، لكنها كذلك ساحرة حضاريا، ففي كل تلك الأمكنة الجميلة التي تتمتع بها مناطق المملكة، تشكلت قصص صنعت حضارة هذه البلاد وصنعت تاريخها الذي لم يكتشف بعد. تشكلت البلدات لتشير إلى المكان وتعرفه ولتقول لنا أن هذا المكان كان يحظى بأهمية خاصة ومختلفة، ونحن يجب علينا أن نفكر في هذه الإشارة على أنها دعوة إلى فهم المكان أولا وإعادة إكتشافه والبحث في مسببات إختياره كمكان للعيش، فلكل بلدة قصة مع تأسيسها ومع بداياتها، وهو ما نريد أن نعرفه. الجغرافيا تحتاج إلى "الزمان" كمعرف وكمكتشف، والزمان يمثله تاريخ الانسان، ومبادرة البعد الحضاري للمملكة العربية السعودية هي محاولة لاكتشاف تاريخ الانسان في الجزيرة العربية وهي مبادرة عظيمة سوف تعزز من القيمة الحضارية للمملكة. هذه المبادرة تؤكد على جمع الجغرافيا بالتاريخ، وتعزز من قيمة المكان بمكونه الطبيعي الخلاق وعبقريته العفوية وكيف أكتشف إنسان الجزيزة هذه العبقرية وتمسك بما تقدمه من فرص ووظفها على شكل عمران "عفوي" تداخل مع خواص المكان الطبيعية وشكل منها مجال إنساني - عمراني لا يمكن وصفه بسهولة. ما أتمناه فعلا هو أن يكون إحدى نتائج هذه المبادرة أن نقوم بكتابة كتاب يصف شخصية المملكة على غرار كتاب "شخصية مصر" للمفكر جمال حمدان، فهذا الكتاب ركز على جغرافية مصر العربية وأمكنتها العبقرية، لكني أرى أن الانتشار السكاني في المملكة وتفاعل أبناء الجزيرة مع كل الأمكنة التي تحتويها، بكل تنوعها، يعطيها قوة أكبر ويجعل من فضائها الطبيعي - الإنساني مجالا خلاقا للحديث عن "شخصية المملكة" بأسلوب أكثر عمقا وأكثر تنوعا. والحقيقة أنني أشعر بهذا التنوع الخلاق الذي يفرض وجوده كلما زرت بلدة تراثية فعندما أنتقل من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب أشعر بنشوة داخلي، فالعمارة تختلف من مكان لآخر، لكنها تظل مخلصة لمكانها الطبيعي، أشعر بلمسة إنسان الجزيرة وإبداعه على تلك الأمكنة وأشعر كيف تحول الفضاء الطبيعي الجميل إلى فضاء عمراني - إنساني أجمل. بالنسبة لي كان هذا الاكتشاف مؤثرا حتى في نظرتي الأكاديمية لتراثنا العمراني، فتلك البلدات المتناثرة على أرض المملكة لا تقدم نفسها كعمارة ساكنة وكأشكال يمكن الاستمتاع بمشاهدتها، بل إنها تقدم لنا قصة "المكان" وتعبر عن شخصية المملكة الطبيعية ومقدرة ابنائها على التفاعل مع هذا المكون الطبيعي المتنوع وكيف صنعوا عمارتهم من أديمها وصخورها. أنها تعبر عن إنفتاح ابناء الجزيرة على الحضارات الأخرى وكيف أنهم طوعوا مواردهم المحدودة لبناء حضارة عظيمة. استطيع أن أقول أنني توصلت إلى مفهوم جديد من خلال تأمل جغرافية بلادنا، فالمكان الجغرافي الطبيعي صار يقودني إلى فهم طبيعة البلدات التراثية، صرت أتوقع أشكالها وطبيعة الحياة فيها، وصرت أخمن إقتصادياتها والأسلوب الذي طوره أهاليها من أجل البقاء على قيد الحياة، "فالمكان يصنع أنماطه الاقتصادية"، لقد مكنتني من فهم طرق الاستدامة التي أنتهجها السكان من أجل المحافظة على مكتسباتهم وحماية أنفسهم. المكان الجغرافي الطبيعي كان مرشدا لتفسير الفضاءات العمرانية التي تبدو ساكنة للوهلة الأولى لكنها تحدثنا بصوت خافت "لمن يريد أن يستمع" عن قصصها التي لا تنتهي، حتى أنها أحيانا تجعلنا نعيد إكتشاف المكان الجغرافي نفسه، فهي تختزن العديد من الاكتشافات لهذا المكان قام بها من سكن قبلنا على هذه الأرض ومن تعامل مع جغرافية المكان في أرض الجزيرة، فآباؤنا وأجدادنا تفاعلوا مع المكان ولا بد أنهم طورا طرق وأساليب اكتشفوا بها هذه الأمكنة مكنتهم على الدوام من الانسجام معها والتناغم مع قسوتها وليونتها ومع ألوانها ومع ما تقدمه لهم من خيرات.