المكان الذي تشكله جغرافية خاصة يستحيل أن يتكرر، تصنع تضاريسه وملامحه التي تحدد شخصيته إلى الأبد، تجعلنا رغم إرادتنا، نتحسسه بعيوننا وقلوبنا ويخاطبنا بوله ينطقنا ويجعلنا نقول "أين كنا من كل هذا الجمال العبقري". هذا المكان بكل توهجه وبساطته يتحدث إلينا بوضوح ويكشف لنا عن تفاصيله التاريخية التي جعلته متفردا عن باقي الأمكنة، حتى أننا نألفه بسرعة وكأننا "أصحاب" أو أننا ولدنا فيه وشكل لنا مرتع الصبا، وكأن ذاكرتنا صنعت معه، لكننا نعرف أننا نزوره لأول مرة، ليجعلنا "نفغر" أفواهنا باندهاش ونقول "يا الله". هذه الحميمية التي تصنعها بعض الأمكنة داخلنا ولا نجد لها تفسيراً هي حالة بيولوجية يشكلها المكان نفسه، تحرك الذاكرة وتجعلنا نفرز "هرمونات العشق" دون إرادتنا، نشعر بقلوبنا وعقولنا تتفتح، وتنطلق وتظهر ابتسامة عريضة على وجوهنا دون أن نعلل هذه الابتسامة. في أشيقر (بلدة صغيرة لا يتجاوز سكانها الخمسة آلاف إنسان تقع على بعد 200 كم شمال الرياض)، يتحدث المكان إلينا ويفضي لنا بكل أسراره، يجبرنا على أن نألفه بسرعة ونمتزج معه في أحداثه وفي حكايات الناس الذين عاشوا المكان وأسلوب حياتهم. البلدة القديمة، تعطينا درساً في عمارة الصحراء وفي صنع الجمال "المستحيل" الذي يصعب تفسيره، يتداخل فيه الطبيعي مع الإنساني/العمراني، نشعر بالبلدة القديمة وكأنها جزء من الجبل (أشيقر أو ضلع الجنينية والتي أخذت اسمها منه وإن كانت تسمى قبل ذلك "عكل" حسب ما تذكره وصية "صبيح عام 747ه) فهو يقع على حافتها وكأنه سور لقلعة عظيمة، يطل عليها بحنان وتتكشف له باحتشام، يحميها ويتطلع لها بأبوة، فهي جزء منه وولدت بين يديه، تظهر المساكن الطينية وسط دوائر من مزارع النخيل وأسوار البلدة الحلقية التي تبين حراك المدينة ومن سكنوها، فهي بلدة تتمدد وسط الوادي وتعاند الصحراء. تقتنص كل الفرص كي تبقى وكي تحول الرمال إلى خضرة. الجبل يحكي حكاية المدينة ويجعل أهلها كل يوم يشاهدون هذه الحكاية، فهم يرقبون مدينتهم وهي تلبس بساتين النخيل وتتخفى وسطها وهم يشاهدونها وهي تتحدى الصحراء وتنفتح على الوادي. من الأعلى، تظهر أشيقر، كحلقات تاريخية تمددت البلدة داخلها وبينها وتداخلت مع جذوع النخل وتظللت بسعفه، علاقة عشق أزلية تداخلت فيها بيوت البلدة مع مزارعها حتى أن شكل البيت وإطلالاته تصنعها المزارع المتاخمة، و"الرواشين" (غرف صغيرة تطل على النخل) وفتحات الغرف والممرات تشكلها النخيل، بلدة تعشق الخضرة وتفتتن بالحياة. قبل حوالي خمس وثلاثين سنة (1397ه) أقنع الشيخ عبدالمحسن المغيرة سكان بلدته بأن يتنازلوا عن "تثمين" بيوتهم التي أقرتها الدولة لهم لمشروع تطوير الوادي والإبقاء على المساكن الطينية التي قد تكون ذات أهمية في يوم، ولم يخالفه أبناء أشيقر، ومرت السنوات وبقت البلدة كمثال نادر على القرية النجدية، تعبر عن العمارة الصحراوية بصدق، لقد وضعت رؤية الشيخ المغيرة الثاقبة أشيقر على الخارطة الاقتصادية السياحية، وصنعت منها مكاناً يستحق الزيارة، فهناك شيء يمكن مشاهدته. ورغم أن أبناء البلدة القديمة تركوها وأهملوها فترة من الزمن إلا أنها بقيت بكل ملامحها وأحيائها تعاند الجحود (وإن تهدم بعضها)، وتذكر أبناءها أنها كانت "الأم الحانية" التي لم تتنكر لهم في يوم، الآن يعاد بناؤها من جديد من قبل الأهالي، وكبار تجارها الذين تركوها للمدن الكبيرة، لكنهم الآن عادوا ليحولوا البلدة إلى ما يشبه "المنتجع الصحراوي" لكنه منتجع طبيعي يكتظ بالتاريخ، حتى إن جدران البيوت تكاد تحكي لنا حكايات الرجال والنساء الذين عاشوا المدينة وصنعوا "عبقريتها". هذه البلدة تعطي درساً معاصراً في "العمارة الجماعية" أو "العمارة التعاونية" فأهل البلدة جميعا اتفقوا على إعادة بناء "أشيقر" وهذا حدث لا يتكرر كثيرا عندنا، لقد حولوا بيوتهم القديمة إلى مجالس للضيوف ومسامرة الاصدقاء في نهاية الأسبوع، لكنني على يقين أن البلدة ستكون عامرة في المستقبل، لأنها حافظت على المجال الطبيعي، الذي يجعل من المكان، فضاء يستحيل نسيانه، لأنه فضاء ممتد إلى ما لانهاية رغم أنه محاط بجدران أربعة، ولا تتجاوز مساحته بضعة أمتار لكنه يغازل النخل عبر فتحاته وينكشف للخضرة كلما سنحت له الفرصة، محاورة "الطبيعي" "المبني" هنا مثيرة للدهشة، تنقلنا من عالم المدينة المكتظ إلى عالم ساحر يفرض عشقه ومودته. في أشيقر توقفت مع صديق عند جدار طين تبدو عليه أصابع من قام ببنائه، فقال لي (وهو فنان لديه حساسية بصرية مرهفة) إن هذا الجدار "لوحة فنية" فقلت له أنت ترى ما لا يراه الناس، لكنني أرى أن هذا الجدار هو سجل إنساني لتاريخ البلدة، فتلك الأصابع تركت بصماتها على هذا الجدار وكل جدار في هذا المكان عليه بصمات من سكنها حتى لو لم يرها الناس، الأمكنة هنا تملؤها الأسرار، وتحيط بها الحكايات. عندما كان الأستاذ عبدالله المغيرة (محافظ أشيقر) يطوف بنا أحياء البلدة كان يتحدث عن حدث هنا وحدث هناك، الذاكرة التاريخية للطرقات والبيوت تحمل كل سجل أبناء البلدة، وعندما توقف عند مسجد الشيخ سلمان بن علي (جد الشيخ محمد بن عبدالوهاب) ذكر لنا أن مئذنة الجامع وكل مساجد أشيقر لها قاعدة مربعة وتنتهي بطرف أسطواني من الأعلى، وهذا النموذج من المآذن لا يوجد إلا في هذا المكان. لقد ذكرتني أشيقر بمدينة "غدامس" في الصحراء الليبية، فتلك المدينة شبه مغطاة بالغرف العلوية التي تربط المساكن ببعضها وتصنع ممرات عبر أسطح البيوت تطوف فيها النساء القرية من أقصاها إلى أقصاها دون أن تحتاج إلى الطرقات السفلية التي يستخدمها الرجال في أغلب الأحيان. في أشيقر تربط "المجببات" أو "السباطات" البيوت في حالة تشبه إلى حد كبير "غدامس" حتى أنني وصلت إلى قناعة أن المدن الصحراوية في المنطقة العربية لها روح خاصة، وهي روح "عضوية" تعلمها الناس من الصحراء ومن مزارع النخيل، الأمر الذي جعل من "مورفولوجية" البلدات تبدو متشابهة إلى حد كبير، فعندما كنت أمر بين أسوار المزارع في أشيقر والتي ترتبط بطرقات البلدة وتفضي إليها تذكرت نفس المشهد بكل تفاصيله وأنا أمر بين أسوار المزارع في طريقي لوسط "غدامس"، مكان حالم وتفاصيل متشابهة لكن عبقرية المكان تكمن في اختلاف التعامل مع هذه التفاصيل.