كثير من الأحيان ، تختلط علينا الأسئلة ، ويهتز إدراكنا في تقدير الأمور ، ومن ثم تضيع الإجابات فيما نعيش الحيرة ونحن نتأمل الشعارات المطروحة ، والمقولات الجاهزة على الساحة الفكرية ... المجتمع المدنى .. الاحتكام للعقل وكيف نستبدله بدلا من الخرافة واستدعاء الماضي .. الدولة الدينية والمجتمع المدني .. الاسلام السياسي وكيف نواجه هجمة "المكفراتية". تصطخب الأصوات وتتشابه فيما تظل المجتمعات العربية فى أزمة تصوغ ثقافتها من خلالها ، حيث تختلط البدايات بالنهايات ، بينما نحن عاجزون عن تحديد الأزمة نفسها. فى هذا الواقع القائم على الاحتمالات اتذكر رجلا صنع مصيره ، وكان جديرا بزمنه واحترامنا ، انه " على باشا مبارك" عليه رحمة الله ورضوانه. كان الرجل من صناع النهضة .. ولد في العام 1823 ورحل فى العام 1893 .. هو ابن نخبة الثقافة المصرية التى سافرت إلى باريس في بعثة من ثمانين مبتعثا ، عادت إلى مصر فى القرن التاسع عشر لتصنع النهضة الحديثة. حين عاد شغل "علي مبارك" وظائف في الهندسة والتعليم والجيش وأصبح وزيرا للأوقاف والأشغال فوزارة المعارف ، وأنشأ دار الكتب ودار العلوم ، واهتم بالري وإقامة الجسور ،وواصل دوره التعليمى فألف سفره الهام "الخطط التوفيقية" على غرار "خطط المقريزي" شارحاً القاهرة أحياء وشوارع وحارات . كان من الحالمين بمصر "قطعة من اوربا" مثلما حلم راعيه الخديوى "اسماعيل". كان في زمته " الفرد يساوي الجماعة لأنه يمتلك حلم الجماعة في التغيير والتحديث والقدرة على الفعل واستخدام الخيال. تذكرت ذلك وانا أشارك فى احتفال حضره أهم المثقفين العرب .. كنا في فندق على النيل ، والأضواء ، وهواء الخريف ، والشعارات كلها تنطلق فترطب جو الليل ، وانا اعرف أغلب الوجوه ، وأعرف ما أسهمت به من أفكار في صناعة الحداثة . كنت أتأملهم وبداخلي سؤال : كل هؤلاء القادرين على صناعة النهضة ولا نهضة؟ .. وترحمت على "علي باشا مبارك". وفرة من المثقفين ، وأصحاب الأفكار يعيشون في زمن يعيش أزمة خروجه من الزمن. تذكرت "علي حرب" "المفكر اللبناني وهو يكاد يصرخ في كتابه "أوهام النخبة" ويردد : "كيف أن الحرية تتراجع من كثرة المطالبة بها ، وكيف أن السعي للنهوض يترجم تقهقرا وكيف أن المناداة بالتنوير العقلي تقضي إلى انتعاش الفكر اللاهوتي ، وكيف ان مقاومة الغزو الثقافي تؤول إلى زيادة التبعية للغرب. تساءلت وأنا أتأمل الحلقات التي تتجاور تحت ثريات الكريستال: لماذا عجز المثقف العربي عن صناعة تنوير حقيقي ينقل بلاده من حالة الضرورة إلى حالة الحرية؟ .. لماذا لم يقدم المثقف لأمته دورا مثلما أسهم وقدم الأفغاني ومحمد عبده وطه حسين والتونسي والريحانى والبستاني وسلامة موسي ومن قبلهم الطهطاوي؟ ولماذا وعبر الخمسين عاماً الأخيرة لم يتواصل مشروع النهضة الذى بدأ أوائل القرن التاسع عشر بل توج بالهزائم والانكسارات؟. هل كان ذلك بسبب إشكالية العلاقة بين المثقف والسلطة؟ . أم هي تلك المتغيرات التي عصفت بمنطقتنا منذ هزيمة يونيه- حزيران 67؟. هل فقد دور المثقف تأثيره بسبب من المثقفين أنفسهم وخضوعهم لسطوة الرأي العام ؟ . هل وصل لوعي الناس أنه لا فرق بين من ينادون بالتنوير ومن ينادون بالأفكار التقليدية كلهم داخل هرم القمح؟. تذكرت في اللحظة "علي باشا مبارك" وترحمت عليه.