يتغنى الشاعر الكبير عمر أبو ريشة بِ أوغاريت، الحضارة التي توارت في رحم الأرض ردحا من الزمن حتى كشفت الصدفة عنها، فيقول في قصيدة هذا جزء منها: يا روعة الماضي البعيد، المستسرّ المبهم كيف انطلقت من السلاسل والعقال المحكم أقبلت، فالتفت الزمان تلفّت المتوهم والموت دونك واقف في ذلّة المستسلم فيم التمرّد، والوثوب على القضاء المبرم أتعبت من حلم الخلود فشئت أن لا تحلمي!! لقد حلمت الحضارة الأوغاريتية، وتكشفت لنا أحلامها باكتشاف ألواح طينية تحوي نفائس أدبيّة تتصف بمتانة البناء وتميّز الأسلوب. ف "ملحمة كريت أو كرت أو كرتو" وجدت في آثار رأس شمرا على الساحل السوري الشمالي مسجّلة على ثلاثة ألواح طينية على هيئة قصيدة طويلة من مئات الأبيات مقسّمة إلى ثلاثة أجزاء، ومعنونة ب "كريت 1" وَ "كريت 2" وَ "كريت 3". وقد اكتسبت "ملحمة كريت" مسمى ملحمة لأنها ليست فقط نتاجا فكرياً خيالياً لبطولة ما، إنما هي ثمرة وقائع تاريخية واجتماعية لها أهمية بالغة. وتتميز كثير من الأعمال الأدبية الأوغاريتية بتكرار الأبيات أو الأجزاء مما يجعل من السهل الافتراض أن تلك الأعمال قد أعدت لتُلقى/تمثّل أمام الجمهور. وتدل ترجمة "ملحمة كريت" بالذات على عمل فني مسرحي يتصف بالتقسيم الدرامي وبتصاعد الأحداث ومتانة الحبكة. كما يسبق بأكثر من ألف عام بخصائصه تلك (وهذا هو الأهم) المسرحيات الإغريقية التي تزعم الحضارة الغربيّة انها أسست الفن المسرحي. تحكي هذه الملحمة قصّة الملك كريت العادل الذي يعاني من اليأس والحرمان بسبب عدم إنجابه لذريّة. ويستمر عذابه حتى يرى يوماً رؤيا مفادها أن أيل (الله) يعده بذريّة كثيرة العدد إن هو تزوّج بحوريّة حفيدة الملك بابيل ملك أدوم. وحين استيقظ الملك كريت نحر الذبائح شكرا لله ثم استعد بجيش كبير وسار إلى بلاد ادوم ليخطب ثم يتزوج بحوريّة التي يرزق منها ثمانية أولاد وثماني بنات (وتقول بعض الترجمات سبعة أولاد وسبع بنات) اولهم ابنه البكر حسيب. ويحكي القسم الثاني من الملحمة وقائع من حياة الملك كريت وتفريطه ببعض الأمور في بلاده، وتعرضه للضعف والمرض بسبب كبر السن، مما يعني أنه من طينة البشر وليس من طينة الآلهة. وهنا يقوم ابنه الأكبر حسيب بلومه على تقصيره بحق رعيته ويخاطبه قائلاً: "بخطيئتك فقدت السلطة فلم تدافع عن قضيّة الأرملة ولم تفحص مصير المظلوم، ولم تقض على الذين سرقوا أولاد المسكين ولم تطعم اليتيم والأرملة. انزل عن عرشك لآخذ مكانك..." وفي القسم الثالث من الملحمة الذي فقت اجزاء منه ينهض الملك كريت بغضب ويدعو الآلهة إلى لعن ابنه. وهذه الملحمة تعالج موضوعات إنسانية ثابتة مثل فقدان الذريّة، والصراع بين الشيخوخة والشباب، وتحقيق العدل بين الناس في الحكم. وهذه كلها تدلّ على المستوى العالي من الاستقرار والتوازن الذي اتصفت به الحياة الاجتماعية والسياسية في اوغاريت العريقة لدرجة مساءلة الملك عن عدله وإيفائه بمتطلبات المُلك. هذا المستوى العالي من الاستقرار يعتبر أيضاً مؤشراً على نمو الحس الفني ودليلاً على إمكانية وجود فن مسرحي جاد ومتطور.