مثل معظم الرجال؛ أكره المراكز التجارية الكبيرة والمغلقة واشعر داخلها بالضياع والملل.. وفي المقابل أعشق الأسواق المفتوحة (أو الموسمية التي تنظم في الهواء الطلق) وأعتبرها رحلة بحث عن "كنز" لا أعرف هويته.. وحتى حين أسافر الى الخارج أحاول عدم إضاعة وقتي بدخول المراكز التجارية الحديثة أو المغلقة - خصوصا أنها تشبه الموجود لدينا - وأسأل عن الأسواق المفتوحة أو الموسمية التي تعقد في يوم معين من الأسبوع.. وما يثير دهشتي - في النوع الأخير من الأسواق - هو كيفية نشأتها واتفاق باعتها على نفس المكان والموعد.. وهذه الظاهرة - التي لا أعرف ماذا أسميها - هي المسؤولة أيضا عن ظهور "الأسواق التقليدية" وسلسلة "الدكاكين" الطويلة في الأحياء والمناطق الشعبية (مثل أسواق البطحاء في الرياض أو قباء بالمدينة أو قابل في جدة).. والمدهش أكثر؛ ليس فقط الاتفاق غير المعلن على التواجد في (نفس الموقع) بل وحرص التجار على بيع (ذات البضاعة).. فمن الملاحظ مثلا أن محلات الملابس والمجوهرات والأحذية تتجاور قرب بعضها البعض في سلسلة طويلة قد تصل إلى 100محل.. وهذه الظاهرة تشمل أيضا القطاع الصناعي والحرفي (وقد تتطور لدرجة تجمع الشركات الكبرى في مناطق موحدة مثل اجتماع شركات البرمجة في وادي السليكون بكاليفورنيا أو مدينة بنجالور في الهند ، أو شركات السيارات في ديترويت أو بفاريا الألمانية)!! ولك أن تتصور ظهور هذا النوع من التجمعات التقليدية من خلال عدة مراحل تبدأ ب : - اجتماع تاجرين (وربما مصنعين) في موقع ارتأيا أنه مناسب لتصريف بضاعتهما... - ومن ثم نجاحهما في استقطاب عدد معين من الزبائن والمشترين... - وهو مايلفت بدوره نظر تجار آخرين فيقررون فتح محالهم (في نفس الموقع).. - بل ويعمدون الى بيع (نفس البضاعة) لضمان النجاح كمن سبقهم.. - وهذا بدوره يستقطب المزيد من الزبائن (كون خيارات كثيرة تجمعت في موقع واحد).. - وهكذا تستمر الدورة بين زيادة عدد البائعين (الطامعين في تقاسم الكعكة) وجذب أعداد إضافية من المتسوقين (ممن تجذبهم سمعة الموقع وميزة السعر ووفرة البضاعة).. - وبهذه الطريقة تنشأ الأسواق التقليدية بدون اتفاق رسمي أو تنظيم حكومي حتى يظهر منافس جديد أو تتعرض لحريق هائل (وهذا محتمل جدا كونه لا يتطلب أكثر من شرارة أو سيجارة تنتشر في بيئة قابلة للاشتعال)! ... وهذا النوع من التجمعات التجارية ظاهرة اجتماعية قديمة بدليل وجودها في كافة البلدان. وهي ظاهرة مدهشة ومفيدة كونها تساهم في بلورة الأسواق (بشكلها النمطي القديم) وتجمع نفس السلع (في موقع واحد ومعروف) كما تخدم المستهلك العادي (حيث التشكيلة الواسعة والتنافس بين التجار)... وفي المقابل لا تتمتع المراكز التجارية الحديثة والمغلقة بهذه الميزة الانسانية (كونها تظهر كقرار استثماري مفاجئ) ولا تخدم المشتري العادي (بسبب انعدام التنافس وثبات الأسعار) ناهيك عن تشابهها في التصميم وتكرار الماركات (لدرجة أشعر أنها متشابهة في جميع الدول)!! وبطبيعة الحال لا أحد يضمن موافقت(هن) على هذا الرأي