في ذاكرتي يمرّ دائمًا أول كتاب اقتنيته عندما كنت في الصف الثالث الابتدائي، ولا تزال تفاصيله حيّة حتى هذه اللحظة. كان كتابًا يحكي قصة بحّارٍ تحطّمت سفينته في عرض البحر، فوجد نفسه وحيدًا على جزيرة معزولة؛ روبنسون كروزو. لم يكن كتابًا عابرًا في يد طفل، بل لحظة دهشةٍ خالصة؛ لحظة اكتشفت فيها أن العالم يمكن أن يُختصر داخل صفحات، وأن الإنسان قادر على أن يعيش أكثر من حياة وهو في مكانه. تحكي الرواية عن إنسانٍ يُنتزع فجأة من ضجيج العالم إلى عزلةٍ قاسية، لا يملك فيها إلا عقله وإرادته. يعيش سنواتٍ طويلة على جزيرته، يتعلّم كيف يبني مأواه، ويزرع غذاءه، ويقاوم الخوف والوحدة، قبل أن يقاوم الطبيعة ذاتها. لم تكن الحكاية مجرّد مغامرة في بحرٍ مفتوح وجزيرة بعيدة، بل تجربة وجودية عميقة عن الصبر، والاعتماد على الذات، ومواجهة النفس حين تُسقط عنها كل الأقنعة. وبين سطور تلك الرواية، كان يتشكّل في داخلي دون وعي الطفولة، اكتشافٌ أعمق من حدود العمر: أن الكلمات لم تُخلق للمتعة وحدها، بل لتكون معبرًا إلى فهمٍ آخر للحياة والذات، وأن القراءة ليست حكاية نطوي صفحتها، بل تجربة تسكننا طويلًا، وتعيد تشكيل وعينا بهدوء لا نشعر به إلا بعد زمن. منذ تلك اللحظة، لم تعد القراءة حدثًا طارئًا في يومي، بل رفيقةً صامتة تنمو معي كلما كبرت. بدأت كدهشة، ثم تحوّلت إلى شغف، ثم استقرّت كعادة، قبل أن تصبح جزءًا من هويتي. كنت أعود إلى الكتب لا لأهرب من الواقع، بل لأتدرّب على فهمه؛ أتعلم كيف يفكّر الإنسان حين يُجرَّد من كل شيء، وكيف تُبنى النجاة على المعرفة، وكيف تتحوّل الفكرة الصغيرة إلى قرار يُغيّر المصير. القراءة أعادت تشكيل علاقتي باللغة. لم تعد الكلمات أدواتٍ للتعبير فحسب، بل مفاتيح للفهم، ومرايا أرى فيها أفكاري بوضوح أكبر. تعلّمت أن الجملة قد تحمل معنى ظاهرًا وآخر خفيًا، وأن الصمت بين سطرين أحيانًا أبلغ من الشرح. هذا الوعي اللغوي لم يبقَ داخل الكتب؛ تسلّل إلى حديثي، وكتابتي، وحتى إلى طريقة إنصاتي للآخرين. صرت أبحث عمّا وراء القول، لا عمّا يعلو صوته فقط. ثم اكتشفت أن عالم القراءة ليس عالمًا واحدًا، بل عوالم متجاورة تتداخل دون أن تتصادم. في التاريخ وجدت الذاكرة الجماعية للبشر، وفي الرواية وجدت الإنسان في ضعفه وقوته، وفي الفلسفة وجدت السؤال الذي لا يهدأ، وفي السيرة وجدت معنى أن تتشكّل الحياة من اختيارات صغيرة تتراكم بصمت. كل كتاب كان يضيف طبقة جديدة من الفهم، لا تلغي ما قبلها، بل تعمّقه وتعيد ترتيبه. ومع هذا الاتساع، تغيّرت طريقة حكمي على الأشياء. صرت أقل اندفاعًا في إطلاق الأحكام، وأكثر ميلًا للتأمل قبل الموقف. القراءة لم تمنحني إجابات جاهزة، لكنها علّمتني قيمة السؤال، وخطورة اليقين السريع. علّمتني أن الاختلاف ليس تهديدًا، بل فرصة للفهم، وأن الحقيقة نادرًا ما تسكن زاوية واحدة. القارئ الجيد لا يرفع صوته كثيرًا؛ لأنه يعرف كم للروايات من وجوه، وكم للحكاية من احتمال. على المستوى النفسي، كانت القراءة مساحة أمان. ليست هروبًا من الواقع، بل استراحة ذكية تُعيد ترتيب الداخل. حين يشتد الضجيج، يمنحك الكتاب إيقاعًا آخر؛ يعلّمك الصبر على الفكرة الطويلة، وعلى المعنى الذي لا يُكشف دفعة واحدة. في زمن المقاطع السريعة، تصبح القراءة تدريبًا نادرًا على التركيز، وعلى البقاء مع فكرة واحدة حتى تنضج. أما أثرها الأعمق، فكان في بناء ما يمكن تسميته «المناعة الفكرية». القراءة لا تعزل العقل عن الأفكار، لكنها تمنحه القدرة على التمييز. تجعل الإنسان أقل قابلية للانقياد وراء الشائعة، وأكثر قدرة على الحوار، وأشدّ وعيًا بالسياق. هي لا تمنع الخطأ، لكنها تقلّل ثمنه؛ لأنها تُعلّمك أن تُراجع، وأن تُصحّح، وأن تغيّر رأيك دون أن تشعر بالهزيمة. ولعلّ الخطأ الأكثر شيوعًا هو التعامل مع القراءة بوصفها جمعًا للكتب أو سباقًا للأعداد. القراءة التي لا تُغيّر صاحبها تبقى سطحية مهما كثرت. المعيار الحقيقي بسيط وقاسٍ في آن: ما الفكرة التي غيّرت سلوكك؟ ما الوهم الذي كشفه كتاب؟ ما السؤال الذي زرعه فيك ومنعك من تكرار خطأ؟ إن لم يحدث شيء من ذلك، فإما أن الكتاب لم يكن مناسبًا لمرحلتك، أو أن القراءة مرّت بك مرور السائح. اليوم، حين أعود بذاكرتي إلى «روبنسون كروزو»، لا أراه كتاب طفولة فقط، بل بوابة. بوابة فتحت طريقًا طويلًا من الفهم، والهدوء، وإعادة النظر. القراءة لم تجعل العالم أقل تعقيدًا، لكنها جعلتني أقدر على التعامل مع تعقيده. لم تمنحني يقينًا مريحًا، لكنها منحتني وعيًا متزنًا. ولهذا، فإن القراءة في جوهرها ليست ما نضيفه إلى عقولنا فحسب، بل ما ننزعه عنها من أوهام، وما نتركه يستقر فيها من معنى. من جزيرةٍ ورقية بدأت الحكاية، وإلى عالمٍ أوسع ما زالت الرحلة مستمرة؛ رحلة يصنع فيها الكتاب إنسانه... صفحةً بعد صفحة.