ليست اللغة العربية مجرد أداةٍ للتواصل، بل كيانٌ حضاري تشكّل عبر القرون، وحمل في حروفه ذاكرة أمة، ووعي تاريخ، وروح ثقافةٍ ما زالت تنبض بالحياة. وفي اليوم العالمي للغة العربية، لا يقتصر الاحتفاء بها على كونها إحدى لغات العالم الحية، بل يتجاوز ذلك إلى التأمل في مكانتها الفريدة بوصفها لغةً صنعت الفكر، وصاغت الهوية، ورافقت الإنسان في رحلته من السؤال إلى المعرفة. وُلدت العربية لغةً مكتملة الملامح، قادرة على احتضان المعنى في أوسع آفاقه، والتعبير عن أدق الانفعالات الإنسانية. تميّزت بثراءٍ لغوي جعل مفرداتها تتكاثر دون أن تفقد دقتها، وببنيةٍ مرنة أتاحت لها أن تكون لغة الشعر والفلسفة، والعلم والتشريع، والخطاب اليومي والبيان الرفيع في آنٍ واحد. فهي لغة لا تكتفي بنقل الفكرة، بل تمنحها عمقًا، ولا تصف الشعور فحسب، بل توقظه في وجدان المتلقي. لقد ارتبطت العربية بالوحي، فازدادت رسوخًا وخلودًا، بحكم القداسة وبحكم الحفظ والتداول المستمر عبر الأجيال. فأصبحت لغةً جامعة، تتجاوز الحدود الجغرافية، وتوحد وجدانًا ثقافيًا يمتد من المحيط إلى الخليج، وتستقطب اهتمام الملايين من غير الناطقين بها، ممن وجدوا فيها لغة فكر وجمال وتأمل. وفي مسيرتها التاريخية، لم تكن العربية لغة ماضٍ منغلق، بل لغة حضور متجدد. فقد استوعبت علوم الحضارات، وأسهمت في نهضة المعرفة الإنسانية، ثم واصلت تطورها في العصر الحديث، لتدخل مجالات البحث العلمي، والتقنية، والإعلام، والفضاء الرقمي، مثبتة قدرتها على التفاعل مع متغيرات العصر دون أن تتنازل عن هويتها أو أصالتها. ويكمن تفوق اللغة العربية في قدرتها النادرة على الجمع بين الثبات والتحول؛ فهي تحافظ على أصولها وقواعدها، وفي الوقت ذاته تملك قابلية الاشتقاق والتوليد، بما يجعلها قادرة على مواكبة المفاهيم الحديثة وصياغة المصطلحات الجديدة. كما تتفرد بجمالها الأسلوبي، وتعدد مستويات خطابها، ما يمنحها عمقًا تعبيريًا قلّ أن تجتمع خصائصه في لغةٍ أخرى. إن الاحتفاء باليوم العالمي للغة العربية هو دعوة لإعادة الاعتبار لها في التعليم، والإعلام، والإنتاج المعرفي، وتعزيز حضورها في حياة الأجيال الجديدة بوصفها لغة تفكير وإبداع، لا مجرد إرثٍ ثقافي. فاللغة التي استطاعت أن تصمد أمام الزمن، قادرة على أن تصنع المستقبل، متى ما أُحسن استخدامها، واستُثمرت طاقاتها، وآمن بها أهلها. وستبقى اللغة العربية، بما تحمله من عمقٍ وجمال وتفرّد، أيقونةً للتميز، ولسانًا للحضارة، وصوتًا لا يخفت؛ لأنها لم تُخلق لتكون عابرة، بل لتبقى.