لم تكن المناعة الفكرية بالنسبة لي فكرة جاهزة، بل نتيجة تراكمٍ من الأخطاء الصغيرة؛ أخطاء في التصديق، وفي الانفعال، وفي التسرّع بالحكم. أتذكّر كم مرة قرأت رأيًا فأعجبني، لا لأنه متماسك، بل لأنه وافق مزاجي في تلك اللحظة. وكم مرة دافعت عن فكرةٍ اكتشفت لاحقًا أنني لم أفهمها بما يكفي، لكنني تمسّكت بها لأن التراجع عنها كان يعني الاعتراف بأنني كنت مخطئًا. تلك اللحظات لم تُضعفني، لكنها كشفت لي هشاشة اليقين حين لا يمر عبر السؤال. من هنا بدأت أعي أن الخطر الحقيقي لا يكمن في الخطأ ذاته، بل في الثقة السريعة به. أن نخطئ أمر بشري، لكن أن نُصرّ على الخطأ لأنه أصبح جزءًا من صورتنا، فذلك ما يُفقد العقل حريته. عندها أدركت أن التفكير ليس موقفًا ذهنيًا عابرًا، بل مسؤولية أخلاقية تُمارَس يوميًا؛ في كل خبر نقرؤه، وكل رأي نسمعه، وكل انفعال نسمح له أن يقودنا. هكذا تحوّلت المناعة الفكرية من مفهومٍ أقرأ عنه، إلى ضرورةٍ أعيشها. تلك التجربة لم تكن حالة فردية معزولة، بل مرآة لواقع نعيشه جميعًا بدرجات متفاوتة. فالعالم اليوم لا يمنحنا ترف التمهّل، بل يدفعنا دفعًا نحو التفاعل السريع، والحكم العاجل، والانحياز قبل الفهم. هنا يتجاوز السؤال حدود التجربة الشخصية ليصبح سؤالًا أوسع: كيف نحمي وعينا في زمن تُختبر فيه العقول أكثر مما تُخاطَب؟ المناعة الفكرية، في جوهرها، لا تعني رفض الأفكار ولا التحصّن ضدها، بل تنظيم علاقتنا بها. أن نمنح الفكرة حقّ الدخول المنضبط إلى العقل، لا أن نفتح لها الأبواب بلا مساءلة. هي أن نتعلّم كيف نُبطئ في عالم يركض، وكيف نسأل في زمن يكره الأسئلة، وكيف نؤجّل الحكم حين يكون التأجيل أكثر أمانة من السرعة. المشكلة الحقيقية ليست في كثرة الآراء، بل في غياب المسافة بينها وبين العقل. حين تُبتلع الفكرة فورًا، تتحول إلى موقف، ثم إلى هوية، ثم إلى تعصّب صامت. وحين تصبح الفكرة جزءًا من صورتنا عن أنفسنا، ندافع عنها حتى لو كانت هشّة، لا لأنها صحيحة، بل لأنها "تشبهنا". هنا تبدأ أخطر أشكال الانقياد: أن يتحوّل الدفاع عن الرأي إلى دفاع عن الذات. أخطر العقول ليست العقول الجاهلة، بل الممتلئة بما لم يُفحَص. عقلٌ يملك إجابات جاهزة لكل شيء، ولا يملك سؤالًا واحدًا جادًا. هذا النوع من اليقين لا يحتاج إلى إقناع، بل إلى محفّز عاطفي بسيط؛ عنوان صادم، أو خطاب يلامس الخوف أو الغضب. وهكذا تُدار القناعات اليوم: لا بالحجج، بل بالإيقاع السريع الذي لا يترك للعقل فرصة للتفكير. حين تشارك خبرًا لأنك غضبت، فأنت لا تعبّر عن موقفك، بل عن لحظتك. وحين تهاجم رأيًا مخالفًا لأنك لم يعجبك، فأنت لا تحمي الحقيقة، بل تحمي راحتك. وحين ترفض فكرة دون أن تفهمها، فأنت لا تمارس حريتك، بل تتخلّى عنها بهدوء. العقل المحصَّن فكريًا ليس عقلًا متشككًا في كل شيء، بل عقلٌ مسؤول عمّا يصدّقه. يعرف أن الحقيقة لا تُختصر في مقطع، ولا تُبنى من جملة مبتورة، ولا تُقاس بعدد المشاركات. لذلك يتعمّد الإبطاء، لا عجزًا، بل احترامًا للتعقيد. يمنح نفسه حق القول: «لا أعلم بعد»، لأن هذه الجملة ليست نهاية الفهم، بل بدايته. ضعف المناعة الفكرية يظهر حين يصبح الانفعال معيار الصواب، وحين يُقاس صدق الفكرة بمدى انتشارها لا بسلامة منطقها، وحين نخلط بين الصوت العالي والصوت الصحيح، وبين الجرأة والسطحية، وبين الاختلاف والعداء. في هذه المنطقة الرمادية، لا يُقصى التفكير بالقوة، بل يُستبدل بالضجيج، ويُرهَق العقل حتى يستسلم. المناعة الفكرية، في أحد وجوهها العميقة، موقف أخلاقي قبل أن تكون مهارة ذهنية. هي رفض للتعميم لأنه اختزال ظالم، ورفض للإقصاء لأنه عجز عن الفهم، ورفض للكراهية لأنها تُعطّل العقل قبل أن تؤذي الآخر. من لا يحتمل الرأي المختلف، لا يبحث عن الحقيقة، بل عن طمأنينة تشبهه. ولا تعني المناعة الفكرية أن يكون الإنسان بلا موقف، بل أن يكون موقفه نابعًا من فهم لا من اندفاع. أن يمتلك شجاعة التراجع حين يتضح الخطأ، لا لأنّه ضعيف، بل لأنّه تجاوز وهم العصمة. الإصرار الأعمى ليس ثباتًا، بل غالبًا خوفٌ من فقدان الصورة أو الاعتراف. أخطر ما يهدد المناعة الفكرية هو وهم امتلاك الحقيقة كاملة. هذا الوهم لا يوقف التعلّم فقط، بل يجعل صاحبه أكثر قابلية للتلاعب، لأنه لم يعد يرى سببًا للتحقق. التواضع المعرفي هنا ليس فضيلة مثالية، بل خط دفاع أساسي يحمي العقل من السقوط في اليقين المغلق. وعلى مستوى المجتمع، تُشكّل المناعة الفكرية قاعدة للاستقرار. فالمجتمع الذي يمتلك وعيًا نقديًا أقل قابلية للاستقطاب، وأقدر على احتواء الاختلاف، وأبعد عن الانجرار خلف الشائعات والخطابات المتطرفة. وحين يصبح التحقق عادة، والتفكير ممارسة، يتحوّل الخلاف من خطر إلى فرصة نضج. في النهاية، لا تُختَزل المناعة الفكرية في محطة وصول نبلغها ثم نستريح، بل هي سلوك يومي شاق، يُمارَس بصمت وبلا ادّعاء. أن تُقاوم إغراء التصديق السريع، وأن تقبل ثِقَل السؤال بدل راحة الإجابة الجاهزة، وأن تنحاز إلى الفهم رغم أن الانسياق أقل كلفة وأكثر شيوعًا. لم يعد السؤال الحقيقي: هل نملك وعيًا؟ بل متى نُعطّله بإرادتنا، ولماذا نسمح له أن يتوارى حين يصبح التفكير مسؤولية، لا ترفًا.