احتضن مكتب «مدينتي» التابع لأمانة منطقة الرياض أمسية ثقافية تحت مظلة الشريك الأدبي وبتنظيم من مقهى عنوان الروقان قدّمها الأديب والقاص والببليوغرافي خالد أحمد اليوسف بعنوان «لماذا القصة القصيرة؟» وأدارتها الأستاذة فاطمة الدوسري، في لقاءٍ تناول هذا الجنس الأدبي بوصفه فناً إشكالياً، مليئاً بالأسئلة، ومفتوحاً على التحول والتجدد، ضمن فضاءٍ بلدي يعكس تلاقي الخدمة بالثقافة، والمدينة بالمعرفة. تناول اليوسف في حديثه القصة القصيرة بوصفها جنساً صعباً، يُساء فهمه كثيراً حين يُتعامل معه على أنه كتابة سهلة أو مدخل سريع إلى السرد، وأكد أن جوهر القصة القصيرة يقوم على الاختزال، والومض، والإيحاء، وكثافة الدلالة، لا على الاسترسال والشرح المباشر، وأن استسهالها أضرّ بها أكثر مما خدمها، في حين أنها في حقيقتها امتحان قاسٍ لقدرة الكاتب على قول الكثير بالقليل، وبناء توتر فني داخل مساحة محدودة. وتحدث عن تجربته الشخصية مع القصة القصيرة، مشيراً إلى أن لحظة التحول في مساره جاءت حين رفض أن يكون امتداداً لما سبقه، وسعى إلى كتابة نصوص مختلفة في الرؤية والبناء، انطلاقاً من قناعة بأن الكتابة القصصية مرنة، تقبل التجريب والتجديد، ولا ينبغي أن تُقيد بقوالب جاهزة أو شروط جامدة، وأوضح أن الاستمرار في هذا الفن لا يتحقق إلا عبر القراءة الواسعة، وتطوير الأدوات، والوعي العميق بالتقنية، لا عبر التكرار أو الاتكاء على شكل واحد. وأشار اليوسف إلى أن اللغة في القصة القصيرة ليست زينة، بل أداة فاعلة تُشكّل الحدث والشخصية والمعنى، ولهذا تنوّعت لغته بين الجمل القصيرة المكثفة، والاقتصاد اللغوي، والاشتغال على الزمن النفسي، مع الغوص في البعد الإنساني والداخلي للشخصيات، وتغيير الأسلوب بحسب الحالة السردية، بعيداً عن النمطية. وتوقف عند حضور المرأة في قصصه، موضحاً أنها ليست عنصراً هامشياً، بل مركز الحدث ومحرك السرد، وأن الكتابة عنها تتطلب حالة من التقمص العميق، قد تفرض عزلة مؤقتة حتى يكتمل النص، وأكد أن القصة القصيرة عنده ليست خطاباً وعظياً أو تقريراً اجتماعياً، بل حالة تخييلية تنطلق من الواقع دون أن تنقله نقلاً مباشراً. وفي سياق أوسع، طرح اليوسف أسئلة القصة القصيرة في المملكة العربية السعودية، متناولاً مسيرتها وتحولاتها، ومؤكداً أنها لم تختفِ رغم ما وُصف بهيمنة الرواية، بل واصلت نموها عبر تعدد الأصوات والاتجاهات، واستمرار النشر والتجريب، وإن تراجع حضورها الإعلامي في بعض الفترات. وبيّن أن القصة القصيرة أثبتت قدرتها على الصمود بوصفها جنساً متوازناً، قادراً على التكيّف مع التحولات الثقافية. واستعرض بدايات القصة القصيرة في المملكة، موضحاً أن الصحافة كانت الحاضن الأول لها منذ الثلاثينيات الميلادية، حيث نُشرت القصص والترجمات قبل صدور أول مجموعة قصصية في منتصف الأربعينيات. وأشار إلى أن هذه المرحلة، رغم ما شابها من تقليدية واضطراب في المفهوم الفني، كانت ضرورية لتشكّل الوعي بالقصة القصيرة، وأنها مثّلت الأساس الذي انطلقت منه المراحل اللاحقة. ثم انتقل إلى مرحلة الثبات، حيث بدأت القصة القصيرة تتبلور على أيدي كتّاب واصلوا الاشتغال عليها بوعي أكبر، في ظل تحوّل الصحافة إلى العمل المؤسسي، وإفراد الصفحات والملاحق الأدبية، ما أسهم في ظهور أسماء جديدة وتجارب أكثر نضجاً، وصولاً إلى التحول الكبير مع دخول عقد الثمانينيات الميلادية، الذي شهد اتساع النشر، وتنامي دور الأندية الأدبية، وازدهار الأمسيات والندوات، ودخول القصة القصيرة إلى المجال الأكاديمي والبحث الجامعي. وتطرق اليوسف إلى جهده التوثيقي، مؤكداً أهمية الببليوغرافيا في حفظ ذاكرة السرد، والإحاطة بالإنتاج القصصي والنقدي، وربط الأجيال اللاحقة بسياقاتها الثقافية، مشيراً إلى أن التوثيق ليس عملاً موازياً للإبداع، بل جزءٌ من مسؤوليته. واختُتمت الأمسية بعدد من المداخلات المتميزة والعميقة بدأها الزميل عبدالله الحسني مدير التحرير، ود. ظافرة القحطاني، ود. عبدالله العمري، ومحمد العرفج، وياسر الجنيد، ووليد المالكي، وعبير الجربوع، ود. ماجد السرحي، كما أكد اللقاء على أهمية انعقاد مثل هذه اللقاءات داخل «مدينتي»، بوصفه نموذجاً حديثاً يقرّب الثقافة من الناس، ويؤكد أن المدينة لا تُبنى بالخدمات وحدها، بل بالوعي والمعرفة والحوار، وأن الفضاءات البلدية قادرة على احتضان الفعل الثقافي، وجعل الكتابة جزءاً من الحياة اليومية، لا نشاطاً معزولاً عن المجتمع. جانب من الحضور