لم تعد الثقافة اليوم مجرد نشاطٍ إبداعي يمارسه الأفراد، بل أصبحت جزءاً من البناء الاجتماعي والاقتصادي للمملكة، ومكوّناً أساسياً في صورتها الحديثة، وفي هذا التحول الكبير، لعبت مبادرة الجوائز الثقافية الوطنية التي أطلقتها وزارة الثقافة في 2020م دوراً جوهرياً في إعادة تعريف معنى «المسؤولية الثقافية» لدى المؤسسات، سواءً كانت حكوميةً، أو خاصة، أو غير ربحية، وذلك عبر خلق معيارٍ جديد للالتزام والمبادرة والتأثير. فمنذ نسختها الأولى اتخذت الجوائز بمساراتها المتعددة طريقاً يتجاوز الاحتفاء بالمبدعين نحو تأطير ثقافة الاعتراف، وتوسيع دائرةِ مَن يتحمّل مسؤولية دعم الفنون والمعرفة والبحث والتطوير الثقافي، حيث إن التكريم لا يقتصر على الأفراد، بل يمتد ليشمل المؤسسات التي جعلت الثقافة جزءاً من رسالتها، أو من استراتيجيتها في خدمة المجتمع، أو من استثمارها في صناعة المستقبل. وقد انعكس ذلك بوضوح في جائزة المؤسسات الثقافية وجائزة سيدات ورجال الأعمال الداعمين للثقافة، وهما فرعان جسّدا هذا المفهوم بأبعادٍ مختلفة، فقد بدأت هذه الجوائز تدفع المؤسسات إلى إعادة التفكير في علاقتها بالثقافة، من حيث هل هي مجرد جهة راعية، أم شريكٌ في صناعة منظومةٍ ثقافية مستدامة. ومع مرور السنوات، أصبحت المؤسسات تنظر إلى الثقافة باعتبارها مساحةَ تأثيرٍ تحمل قيمةً اقتصادية واجتماعية ورمزية، لا مجرد نشاطٍ جانبي أو مبادرة ظرفية. لذلك أصبحت الجوائزُ الثقافية الوطنية آليةَ تحفيزٍ للمؤسسات الحكومية كي تطوّر برامج تعليمية، ومشاريع بحثية، ومتاحف جديدة، ومبادراتٍ تُعنى بإحياء التراث ودعم الفنانين. أما المؤسسات الخاصة، فقد اكتشفت في الصناعة الإبداعية فرصةً اقتصادية واعدة، فانخرطت في رعاية رواياتٍ أدبية، وإطلاق برامج احتضان للمبدعين، وتمويل مسابقات، ودعم إنتاج فنون الأداء أو السينما أو الموسيقى. وفي القطاع غير الربحي، ساعدت الجوائز في تعزيز دور الجمعيات الثقافية والمؤسسات المجتمعية التي تسهم في بناء وعيٍ ثقافي محلي يمتد أثره إلى الأجيال القادمة. ومع توالي الدورات، أصبح التكريم نفسُه حافزاً تنافسياً؛ إذ باتت المؤسسات ترغب في الظهور ضمن قوائم الفائزين، ليس من باب السمعة فقط، بل من باب الانتماء لمسؤوليةٍ وطنية أكبر، فقد أدركت المؤسسات أن الفوز بجائزةٍ ثقافية وطنية هو شهادة التزام، وتأكيدٌ على أن الثقافة جزءٌ من واجباتها تجاه المجتمع. وهكذا لم تعد المسؤولية الثقافية مجرد مفهومٍ نظري، بل سلوكاً مؤسسياً متنامياً؛ يمكن قياسه بعدد المبادرات، وبرامج التدريب، والشراكات الدولية، وجهود الحفاظ على التراث، والاستثمار في المواهب الشابة، حيث ساهمت الجوائز في خلق لغةٍ جديدة بين الدولة والقطاع الخاص والمجتمع المدني، لغةٌ ترى في الثقافة قيمةً مشتركة لا تخص جهةً بعينها، بل تخص الوطن كله. وبهذا المعنى، أصبحت الجوائز الثقافية الوطنية واحدةً من أهم أدوات بناء الوعي المؤسسي بالثقافة، وجزءاً من حركةٍ وطنية تهدف إلى جعل الإبداع ممارسةً يومية، وليس موسماً عابراً، ليتجاوز الحفل الختامي لكل موسم دورَ تكريم الفائزين إلى إعادةِ تعريف دور المؤسسات في تشكيل المستقبل الثقافي للمملكة، وهو مستقبلٌ لا يتحقق إلا حين تدرك كلُّ جهةٍ أنّ دعم الثقافة ليس عملاً ثانوياً، بل هو جزءٌ من مسؤوليتها تجاه مجتمعٍ يتطلع إلى الإلهام، ويستحقه.