الأمور القضائية في المملكة لم تعد تدار بالطريقة القديمة، أو بحمل الأوراق والمثول أمام المحاكم والقضاة، فقد تحولت إلى منصة رقمية تدار فيها الجلسات عن بعد، وتوثق إلكترونيًا، وإلى أحكام قضائية تبنى على أدلة رقمية موثوقة، كالمراسلات الإلكترونية والتسجيلات الصوتية والمرئية، والتي بدأ تفعيلها مع نظام الإثبات، وكلها تخضع للرقابة على مدار الساعة.. في يومي 23 و24 نوفمبر من العام الجاري، عُقد مؤتمر العدل الدولي الثاني في فندق الريتز كارلتون بمدينة الرياض، وقد تكلمت فيه خمسون شخصية، من بينهم وزراء عدل وخبراء وقضاة وقادة فكر، وذلك في ثماني جلسات حوارية، وست ورش عمل متخصصة، وحضره قرابة أربعة آلاف مختص، يمثلون أكثر من أربعين دولة، وناقش المؤتمر آخر التطورات في الأنظمة العدلية، ودور التقنيات الحديثة في تطوير القضاء، واستعرض تجارب دولية في التقاضي الإلكتروني، واهتم بتطوير التشريعات وجودة المحاكم والوساطة القضائية، وتحسين آليات تسوية النزاعات والعدالة الوقائية، وقدم نماذج ناجحة عالميا في هذه المجالات، وقد كان موضوعه: الجودة القضائية، بعد أن ركز في مؤتمره الأول على التحول الرقمي، وكلاهما متلازمان في أولويات وزارة العدل السعودية، التي يعتبر نموذجها الحالي، في رأيي، الأفضل في المنطقة بأكملها، لأن ما تم عمله سعوديا مازال غائبا بدرجة عالية إقليمياً ودولياً، ومازالت الأساليب التقليدية تتسيد المشهد القضائي في الحالتين. السابق يؤكده كلام وزير العدل الدكتور وليد بن محمد الصمعاني في المؤتمر الصحافي الحكومي، الذي تزامن مع اليوم الأول للمؤتمر، وقال فيه إن خدمات وزارة العدل أصبحت أكثر كفاءة وفاعلية، مقارنة بفترات سابقة، وبالأخص مع وجود الأنظمة المتخصصة في المعاملات المدنية والأحوال الشخصية والإثبات، وكلها جعلت المحاكم تتفرغ لإثبات الوقائع وتوصيفها، وخفضت مساحة الاجتهاد، وزادت من سرعة الفصل في الدعاوى إلى ما نسبته 44 %، ومن صدق اليقين القانوني وإمكانية التنبؤ بالأحكام إلى نسبة 70 %، وهذا قلص من مدة التقاضي، ورفع جودة المخرجات القضائية، وساهم بالتالي في تحسين نسبة رضا المستفيدين من 78 % في 2022 إلى 92 % في 2025، وحتى تنفذ المستهدفات بشكل احترافي تم إنشاء مركز العمليات العدلي لمتابعة كامل أعمال الوزارة، عن طريق أربعة مؤشرات استراتيجية، تقيس معدل الإنجاز والجودة ورضا المستفيدين بواسطة 53 مؤشراً تشغيلياً. بخلاف العمل بنموذج القضاء المركزي لرفع جودة الأحكام، وتقليل التباين فيها، ولعل ما قيل كان سبباً في الانتقال إلى التقاضي الإلكتروني، والذي لا يقف بالمناسبة عند التحول الرقمي، ويدخل فيه التحول الإجرائي والموضوعي، بما فيها هندسة الإجراءات، وإعداد نموذج تشغيلي للمحاكم، لا يرتبط بموقع جغرافي معين، والأخير طبق في المحاكم العمالية، وكانت نتائجه إيجابية، فقد زاد من معدل الفصل في النزاعات بنسبة 50 %، وأتصور أنه سيعمم تدريجياً على المحاكم بمختلف تخصصاتها، وأتمنى على وزارة العدل ان تفكر جديا في السماح برفع الدعاوى في غير مقر المدعي والمدعى عليه، منعا لاحتمالات التأثير السلبي على مسارها، خصوصاً أن الجلسات الإلكترونية أخرجت الجغرافيا من المعادلة العدلية. كانت بداية وزارة العدل السعودية في 1975، أو قبل أكثر من خمسين عاماً، وخلال هذه المدة القصيرة، استطاع القضاء السعودي أن يحقق إنجازات كثيرة وكبيرة، وأصبح في الوقت الحالي يدار رقمياً من خلال 14 نظاماً، وهذه الأنظمة القضائية تشمل نظامي القضاء وديوان المظالم، أو ما أصبح يعرف بالمحكمة الإدارية المستقلة في أعمالها عن الوزارة، وسبق أن ألغت قرارات وزارية لوزارات سيادية، بجانب أنظمة النيابة العامة والتنفيذ والمرافعات الشرعية والمحاكم التجارية والإجراءات الجزائية، ومعها المحاماة والرهن العقاري وتملك غير السعوديين للعقار، بالإضافة الى أنظمة المعاملات المدنية والأحوال الشخصية والإثبات، وبانتظار صدور نظام العقوبات في المرحلة المقبلة، وبحسب أرقام 2024، أقامت وزارة العدل ستة ملايين جلسة عدلية، عن بعد، أو بالتقاضي الإلكتروني، وتم فيها إصدار ما يزيد على مليوني حكم، ووفرت للسجناء حضور الجلسات وهم في أماكنهم، وبمعدل 300 جلسة يومياً. زيادة على ما سبق يوجد في الوزارة صندوق للنفقة، يعمل على توفير نفقة الأسرة في مرحلة التقاضي، وأعداد المستفيدين منه تصل إلى 4500 من الجنسين، وساهمت منصة تراضي العدلية وعن طريق الصلح في تراجع الطلاق بين السعوديين بنسبة 22 %، والقضاء السعودي في صورته الحالية مؤسسي، ولا يرتبط بشخصية ومزاج القاضي، مثلما كان يحدث سابقاً، وارتباطه يكون بالدوائر القضائية وحدها، ولهذا فقد تقدمت المملكة ثمانية مراكز في تقرير التنافسية العالمية، وتحديداً في مؤشر الاستقلال القضائي لعام 2022، لتصل إلى المركز 16 عالمياً، وهو أمر مشرف، وفيه تقديم للمنظومة العدلية السعودية، كتجربة نجاح، تستحق أن تدرس وتستلهم، من دول المنطقة والعالم. الأمور القضائية في المملكة لم تعد تدار بالطريقة القديمة، أو بحمل الأوراق والمثول أمام المحاكم والقضاة، فقد تحولت إلى منصة رقمية تدار فيها الجلسات عن بعد، وتوثق إلكترونيا، وإلى أحكام قضائية تبنى على أدلة رقمية موثوقة، كالمراسلات الإلكترونية والتسجيلات الصوتية والمرئية، والتي بدأ تفعيلها مع نظام الإثبات، وكلها تخضع للرقابة على مدار الساعة، ولنظام تتبع ذكي يرصد هوية كل من يدخل عليها، من داخل أو خارج وزارة العدل، ويسجل تصرفاته وما قام به آلياً، وهذه الإنجازات لا ينتقدها إلا مغرض، أو مستفيد من الأوضاع السابقة.