تشهد المدن حول العالم تحولًا متسارعًا يعيد تعريف دورها التقليدي؛ فلم تعد قيمتها تُقاس بما تمتلكه من بنى تحتية أو مبانٍ شاهقة، بل بقدرتها على تمكين الإنسان، وإتاحة المعرفة للجميع، ورفع جودة الحياة. وفي هذا السياق يبرز انضمام ثماني مدن سعودية إلى شبكة اليونسكو العالمية لمدن التعلّم؛ الجبيل الصناعية، ينبع الصناعية، المدينةالمنورة، الأحساء، مدينة الملك عبدالله الاقتصادية، الرياض، العلا، رياض الخبراء؛ بوصفه إنجازًا يتجاوز الاعتراف الدولي، ليجسد توجهًا وطنيًا راسخًا يضع الإنسان أولًا، ويحوّل التعلّم إلى جزء من حياة الفرد اليومية وفرصه المستقبلية. وقد جاء اختيار هذه المدن نتيجة التزامها بمعايير دولية واضحة في تمكين السكان، وابتكار بيئات تعلّم مفتوحة، وتفعيل المشاركة المجتمعية. فمدينة التعلّم ليست مدينة تُعرَف بكثرة مؤسساتها التعليمية، بل بمنظومتها الحضرية والثقافية التي تجعل المعرفة جزءًا من إيقاع الحياة؛ حيث تمتد المكتبات والمنصات الرقمية، وتزدهر مراكز التدريب، وتُفتح الفضاءات العامة للتعلّم دون قيود مكانية، وتُقدَّم البرامج المهارية لمختلف الفئات، وتعمل حاضنات الأعمال على تحفيز الابتكار وصناعة المستقبل. وهكذا ينتقل التعلّم من نشاط محدود إلى ممارسة مستمرة تُعزّز فرص العمل، وترفع مستويات الدخل، وتُسهم في تحسين الاستقرار الاجتماعي والارتقاء بجودة الحياة. وتظهر التجارب الدولية؛ من سنغافورة وهلسنكي إلى كوبنهاغن وكورك؛ أن المدن التي تستثمر في التعلّم مدى الحياة تُحقّق مستويات أعلى من الرفاه والتنمية؛ فوفقًا لتقارير اليونسكو، تسجّل مدن التعلّم معدلات أفضل في المشاركة المجتمعية، ووفرة الفرص الوظيفية، وجودة الخدمات. وهذا التوجّه ينسجم معرؤية المملكة 2030 التي وضعت الإنسان في قلب التنمية، وأكدت أن بناء مجتمع حيوي واقتصاد مزدهر لوطن طموح يبدأ من تمكين المواطن بالمهارات والمعارف التي تؤهله للمستقبل. وقد أكد سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان أن تحسين جودة الحياة وتنويع الاقتصاد ليست أهدافًا جانبية، بل ركائز أساسية لبناء المستقبل؛ وعندما تتحول المدن إلى منصات للتعلّم، فإنها تُترجم هذه الرؤية إلى واقع ملموس. وفي سياق موازٍ، يؤكد معالي وزير التعليم أن المملكة لا تنفق على التعليم فحسب، بل تستثمر فيه باعتباره صناعة تصنع المستقبل وترتبط مباشرة بالنمو الاقتصادي. ويتكامل هذا التوجه مع الهوية الحضرية السعودية التي تُعيد تشكيل علاقة الإنسان بالمكان من خلال طابع بصري وثقافي ومعماري يُصمّم لأجل الإنسان، ويحوّل الفضاءات العامة والمرافق والخدمات إلى بيئات تعليمية مفتوحة تعزّزالانتماء وترفع جودة المعيشة. ومع اكتمال البعد الإنساني في هوية المدن، يبرز الذكاء الاصطناعي بوصفه القوة التي تدفع هذا المسار إلى آفاق أكثر تطورًا؛ إذ يوفر تعلّمًا مخصصًا لكل فرد، ويرفع كفاءة الأداء من خلال تحليل البيانات، ويدعم المعلّمين بأدوات تقييم ذكية، ويربط المهارات بفرص العمل المستقبلية. كما يمكّن المدن من اتخاذ قرارات أدق، ويُسهم في تطوير خدمات رقمية ترتقي بجودة الحياة، ليغدو الذكاء الاصطناعي عنصرًا محوريًا في تحويل التعلّم إلى منظومة مرنة وميسّرة ومستدامة للجميع. وتبرز الجبيل الصناعية نموذجًا سعوديًا متقدمًا بعد حصولها على جائزة اليونسكو، في دلالة على قدرة المدن السعودية على المنافسة عالميًا عندما تتبنى نموذجًا حضريًا يقوم على المعرفة ويضع الإنسان في مقدمة الأولويات. ختامًا... تُثبت مدن التعلّم أنها مشروع حياة يعيد تشكيل الإنسان وينمّي قدراته، ويفتح أمامه آفاقًا أوسع للنمو والازدهار. ومع طموح المدن السعودية في هذا المسار، يتأكد أن «الإنسان أولًا»، ليكتمل مشهد وطن يجعل المعرفة أساس نهضته، ويجعل الإنسان محور تطوره وتقدمه، وحيثما وُجدت مدينة تتعلّم... وُجدت حياة أفضل. *عضو مجلس الشورى