تحوّل البودكاست اليوم من مساحة صوتية إلى منصة بصرية تفرض حضورًا جديدًا في عالم صناعة المحتوى الإعلامي، فلم يعد المستمع يكتفي بما يسمعه، بل أصبح يشاهد ويلاحظ تفاصيل حركة الصورة والملامح، ويراقب لغة الجسد، ويكوّن رأيه عن الحلقة قبل أن يبدأ الحوار بثوانٍ، فكثير من لغة التواصل تتممن خلال لغة الجسد والمظهر البصري، والتي يطلق عليها في علم الاتصال (الاتصال غير اللفظي)، فالإشارات غير اللفظية تستحوذ على 93 % من التأثير على المشاهد، وهذا يعني أن رسالة المذيع تُنقل عبر قنوات غير لفظية، مما يجعل المظهر والإطلالة جزءًا أساسيًا من فعالية الرسالة الإعلامية، وليستتفصيلة ثانوية كما قد يظن البعض. ورغم ذلك، برزت ظواهر لافتة تُظهر فجوة بين من يفهم قيمة الظهور الإعلامي، وبين من يخلط بين العفوية والفوضى. في المشهد السعودي على سبيل المثال، ظهرت حالات لمقدّمين وضيوف يطلّون بشكل أقرب لجلسة شخصية غير مرتبة، أو بملابس لا تعكس حدًا أدنى من المهنية. هذه التفاصيل ليست مجرد أخطاء شكلية، بل مؤشرات على غياب إطار يضبط العلاقة بين البساطة المطلوبة وروح المهنية التي يفرضها الظهور أمام الجمهور، وذلك في الوقت الذي تؤثر فيه ثقة الجمهور في مقدم البودكاست بشكل مباشر على استقبال الرسالة الإعلامية وتقييمها. ولهذا فإن المظهر المهني والسلوك المتسق للمقدم يُعزّزان من مصداقيته، وأي تناقض بين المظهر والرسالة المنقولة يُضعف من تأثير المحتوى، وهو ما يثير تساؤلات حول اختيار المذيعوالمعايير التي بناءً عليها أصبح مقدمًا مناسبًا لإدارة دفة الحوار في البودكاست. ونؤكد إذًا أن العفوية ليست مشكلة بحد ذاتها، والابتعاد عن الرسمية ليس عيبًا، لكن المشكلة تبدأ عندما تتحوّل البساطة إلى استسهال، وعندما يصبح الظهور الإعلامي امتدادًا لغرفة منزليةبدلًا من أن يكون امتدادًا لفكرة تريد أن تصل بوضوح وثقة. هنا يتضح الفرق بين من يرى البودكاست وسيلة للفهم والحوار، وبين من يتعامل معه كجلسة عبث بصري لا وزن لها ولا تأثير. ولنرجع للوراء قليلاً ونتذكر أن الأجيال السابقة من الإعلاميينالسعوديين، وبعض الإعلاميين الحاليين، سواءً في الصحافة أو التلفزيون، تعاملت مع الظهور الإعلامي بوصفه جزءًا من مسؤوليتها أمام المجتمع، فكان الشكل جزءًا من الرسالة، وكانت الإطلالة امتدادًا لطريقة التفكير. لم تكن الأناقة ترفًا، بل كانت مهارة في احترام المشاهد، واحترام اللحظة والموضوع، وهذا التوازن هو ما يحفظ قيمة الوظيفة الإعلامية. ولا نقدم ذلك بإعتباره حنينًا إلى مظهر المذيع الكلاسيكي،فالإعلام الجديد يفرض لغة مختلفة، وإيقاعًا أسرع، ومساحة أكبر للتجريب. لكنه يحتاج إلى حد أدنى من الانضباط كي لا ينزلق المحتوى من المهنية إلى الفوضى. وهناك نماذج جيدة من برامج البودكاست في المملكة تجيد الجمع بين الروح الحديثة والالتزام البصري وتُظهر أن البساطة والاحتراف يجتمعان، وأن المظهر ليس عدوًا للعفوية بل حارسًا لها وهذا ما سيتم التطرق اليه في مقال آخر. لذلك نحتاج - اليوم - بروتوكولًا مكتوبًا لإطلالة المذيع والضيف في البودكاست، بروتوكولًا مرنًا يضع خطوطًا واضحة تحمي المحتوى من التشوّه البصري، بروتوكولًا يُذكّر المذيع بأن الجمهور ينظر قبل أن يسمع، ويُذكّر الضيف بأن ظهوره ليس عابرًا، بل جزءًا من قيمة الحديث نفسه، بروتوكولًا يجعل المشاهد يُركّز على الفكرة لا على التفاصيل الجانبية التي قد تخطف الانتباه وتربك المتلقي. ويمكن أن يشمل هذا البروتوكول مهارات بسيطة لكنها مؤثرة، مثلاً: الالتزام بالزي الرسمي للمملكة أو على الأقل اختيار ملابس تناسب نوع البرنامج دون مبالغة أو استخفاف، وتنسيق الألوان أمام الكاميرا لتجنب المظهر المشتت، وترتيب الشعر واللحية قبل التصوير، وتجنب الإكسسوارات أو الملابس التي تسرق انتباه المشاهد، والجلوس بوضعية ثابتة تمنح حضورًا بصريًا متوازنًا، وضبط الخلفية بحيث لا تبدو عشوائية أو غير لائقة، والتأكد من أن الإضاءة لا تُظهر المذيع أو الضيف بشكل مربك أو غير مهني، وتجنب الحركات العشوائية أو المبالغ فيها التي تشوش على الانتباه، وترتيب أي أوراق أو كتب أمام الضيف أو المذيع بطريقة منظمة، وكذلك مراعاة الذوق العام والقيم الثقافية السائدة، والالتزام بأي قوانين أو لوائح رسمية تحدد السلوكيات والمظهر في الإعلام المرئي. هذه ليست قواعد شكلية، بل هي جزء من صناعة الانطباع، وهي التي تمنح المحتوى وزنه قبل وصول الكلمة إلى أذن المتلقي. وفي السعودية، لا يقف الأمر عند حدود الذوق، فالمحتوى المرئي يخضع لأنظمة تضع حدودًا واضحة للسلوكيات غير اللائقة في الظهور الإعلامي، وهو ما يجعل بعض التجاوزات البصرية عرضة للإجراءات النظامية. وقد بذلت الهيئة العامة لتنظيم الإعلام جهودًا مميزة من خلال إصدارها دليل المهن الإعلامية والذي يوضح مبادئ ممارسة المهنة وضوابط العمل الإعلامي، كما تتابع الهيئة برامج البودكاست المقدمة في المملكة لرصد وتحليل وتقييم شكلها ومحتواها، وقد اتخذت إجراءات حازمة لإيقاف برامج لم تلتزمبضوابط العمل الإعلامي في المملكة، وهذا ما يعزز أهمية أن يكون للبودكاست إطار مهني واضح ومكتوب يمنع مسبقًا الانزلاق إلى صور لا تليق بمكانة المحتوى الإعلامي ولا بمستوى الوعي العام، ويجعلنا لا نكتفي بالمتابعة اللاحقة ومعالجة الأخطاء بعد وقوعها، بل نقوم بتوضيح المعرفة المسبقة التي ترشد مسؤولي برامج البودكاست إلى البروتوكولات الملائمة للمهنة والمجتمع. البودكاست اليوم أحدث حراكًا جديدًا على الإعلام السعودي، باعتباره ليس مجرد محتوى رقمي عابر. ومع توسع الاهتمام، وتزايد الرعاة، واشتداد المنافسة، تصبح الحاجة إلى معايير واضحة مسألة محورية، لا مسألة ذوق. لأن المظهر في النهاية ليس تفصيلًا صغيرًا، بل بوابة للثقة، والثقة هي ما تجعل الجمهور يفتح الحلقة ويكملها ويعود إليها. وفي خضم الزيادة المستمرة لظهور برامج البودكاست، نحن في حاجة إلى بروتوكولات تحفظ روح البودكاست وتمنحه شكله الطبيعي دون مبالغة أو فوضى. نحتاجه كي نفصل بين العفوية والعبث، وبين البساطة والإهمال، وبين الحوار الجيد والمشهد السيئ. نحتاجه لأن الإعلام الجديد لا يمكن أن يستمر دون قواعد تحمي قيمته، تمامًا كما حمت القواعد السابقة هيبة الصحافة والتليفزيون لسنوات طويلة. وعلينا أن ندرك بوضوح أن المظهر ليس مجرد لباس، بل رسالة تنقل احترام المحتوى والجمهور، حين تضطرب الرسالة، يضيع أثر الحوار.