في قصة موسى عليه السلام، تقف اللغة القرآنية عند مشاهد الدهشة والرهبة وقفاتٍ دقيقة تُدهش المتأمل وتُربّي الذوق البلاغي. ومن أعجب تلك الوقفات اختيار القرآن للفعل «تَلْقَف» في قوله تعالى: (فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ) الأعراف 117، لفظة قصيرة، خاطفة، لكنها سريعة، مفاجئة، قاطعة. ومع أن الصورة الظاهرة قد توحي «بالابتلاع»، إلا أن القرآن الكريم عدل إلى فعلٍ أخفّ حركةً وأسرع خُطًى وأبلغ دلالة وهو «تَلْقَف» فلماذا؟ أولًا: دلالة «اللقف»... خطفٌ لا هضم فيه»لَقَفَ» في العربية فعلٌ يدل على الأخذ السريع المحكم، غالبًا بالفم، وقد يكون باليد، لكنه لا يتضمن معنى المضغ أو الهضم أو الاستهلاك. هو أشبه بفعل المفاجأة: أخذٌ صاعقٌ يختفي فيه الشيء بين لحظة وأخرى. حين يصوّر القرآن الكريم عصا موسى عليه السلام -وقد تحولت حيّة- وهي تتجه نحو حبال السحرة وعصيهم، فإنه يصف مشهد اختفاء خاطف لما كانوا يأفكون. فالأشياء لم تتحول إلى طعام! ولم يكن المشهد عملية افتراس، بل إبطال للسحر بأسرع ما يكون. «تلقف» إذاً هو أدقّ لفظ يرسم لنا هذه الحركة السريعة المحكمة دون أثر بطيء أو فعل داخلي. ثانيًا: الفعل «أكل» يحمل معنى الهضم، التفتيت، الفناء التدريجي. والأكل عملية زمنية، تحتاج إلى وقت، وتتضمن استهلاكًا من الداخل. والمشهد لا يصور العصى ككائن مفترس يأكل ما حوله. إنما كان إزهاقًا فوريًا للباطل دون بقاء أثرٍ منه ولا بقاء فعلٍ داخلي يقتضي الزمن. لو كان اللفظ «تأكل»، لانصرف الذهن إلى عملٍ عضويّ، لا إلى معجزة خاطفة تطوي الباطل طيًّا. ثالثًا: الفعل «ابتلع» يوحي بالابتلاع المباشر، لكنه يبقى أقلّ سرعة من «تلقف»، وفيه معنى دخول الشيء في الجوف، وقد وجدنا القرآن تجنب هذا اللفظ لسببين: لأن العصيّ والحبال لم تدخل جوف الحيّة دخول الطعام، بل اختفت بقدرة الله بغياب أي أثرٍ مادي بعده. ثم إن «البلع» لفظ ثقيل الإيقاع، بينما المقام مقام حركةٍ سريعة يشبه شرارة تلتقط ما حولها ثم تنطفئ. فكان «تلقف» أقرب إلى الصورة الحركية الدقيقة. ثم إننا نجد تناسبًا بلاغيًّا بين «تلقف» و«ما يأفكون» إذ لا بد من الانتباه إلى أن المقابل للفعل هو قوله تعالى: «ما يأفكون» والإفك هو الكذب المصنوع المقلوب عن وجهه، أي إنه باطل هشّ. كان الباطل ضعيفًا في ذاته، والمشهد لم يحتج أكثر من حركة واحدة لإزالته. ولم يحتج القرآن الكريم كلمة تحمل قوة الهضم، بل حركة دقيقة تقتلع الإفك من جذوره. «تلقف» هنا تأتي كأنها ممحاة ربانية تمرّ على أكاذيبهم فلا تبقي لها أثراً. وأخيراً نجد أن اختيار «تلقف» ينسجم تمامًا مع طبيعة المعجزة: بلا مهلة، بلا جهد، بلا أثرٍ يُترك في الداخل، بلا منطقٍ حيواني مألوف، بلا زمن محسوس. إنه مشهد يبطل الحيلة لا مشهد منافسة بين الأفاعي. ولذلك جاءت اللفظة خارقة مثل الحدث تمامًا؛ وهنا ندرك عظمة بلاغة القرآن في اختيار اللفظ الدقيق القادر على حمل الصورة كاملةً حركة العصا، طبيعة المعجزة، سرعة الفعل، هشاشة الباطل، ورهبة المشهد. وعليه فإن اللغة هنا ليست وصفًا لمشهد، بل هي جزء من المعجزة نفسها.