تتشكل صورة العربي دائماً بين نظرتين: نظرة من الداخل يرسمها المفكرون، وفي مقدمتهم عبدالوهاب المسيري الذي قرأ العربي عبر جذوره وقيمه وموروثه؛ ونظرة من الخارج كتبها الرحّالة والمستشرقون وكل من دخل الصحراء بعين الدهشة، وعلى رأسهم لورنس العرب. وبين هاتين النظرتين، يبقى العربي الحقيقي الذي نراه في أحداث الحياة اليومية: غزيرةٌ صفاته، عميقةٌ مبادئه. المسيري كان يؤمن أن العربي يتحرك من شبكة قيم تقوده إلى الفعل: الإيمان، روح الجماعة، الكرم، الشهامة، والضمير الحي. فهو ابنُ إرثٍ طويل تاريخي من القيم، تدفعه قيمه إلى القمة حتى في أصغر المواقف. شهدت هذا المعنى في مشهد بسيط داخل إحدى الدوائر: موظف يقلب أوراقي ثم يقول بهدوء لا ينتظر شكراً: «لا أشك أن أوراقك كاملة... لكني أخشى أن تفوتك منفعة، وضيوفنا لا بد أن نهتم بهم». وكنت أعلم في قرارة ذاتي أنه لم يؤدِّ "الحد الأدنى" من عمله بل "الحد الأعلى" من قيمه؛ تصرف كما تربّى، لا كما تُملي اللوائح. تلك هي الشخصية التي تحدث عنها المسيري: إنسان مدفوع بقيمه قبل أي اعتبار آخر. أما لورنس العرب، فقد دخل الصحراء بمعيار أوروبي، ليكتشف أن معيار العربي مختلف جذرياً. كتب في أعمدة الحكمة السبعة: «العربي إذا آمن بك ركب معك البحر». لم تكن استعارة؛ كانت ملاحظة رجل اختزل ومزج خصال العربي في تعبيره. حيث رأى العربي يواجه المجهول بثقة تُبنى على الصدق لا على الأوامر. رآه يمنح ولاءه كاملاً من أجل قيمة يدافع عنها أو شخص يؤمن به. رآه يقاتل بقلبه قبل سلاحه، ويتحمل العناء لأنه آمن، لا لأنه أُمر، ولأنه شهم لا يهاب بطبيعته. بالنسبة للورنس كانت دهشة... وبالنسبة للمسيري كانت امتداداً طبيعياً لإرث تاريخي طويل من القيم. وحين نضع الصورتين معاً، نرى الحقيقة التي نعرفها نحن العرب: العربي ينهض حين يصدق، ويثبت حين يؤمن، ولا يعطي قلبه ولا ثقته إلا لمن يستحقهما. هذه القيم لا تُرفع كشعارات، بل تتجلى بالطبيعة الراسخة: في حسن الجوار، في إيثار المواقف، في يد تمتدّ بلا انتظار مقابل، وفي كلمة تُقال بصدق فتتحول إلى عهد. ما سجّله المسيري عمقاً، وما دوّنه لورنس دهشة، نراه نحن يومياً كمسلمات. هكذا يتجلى العربي كما نعرفه نحن -لا كما يُكتب عنه- شخصية تُرى وتُختبر بسمو الأفعال، لا تغيره الأحوال. ابن إرث من القيم، وابن المواقف النبيلة والفطرة السوية، وابن كلمة ذات شرف إذا قالها ثبت عليها. وهكذا أرغب لكل رجل عربي يقرأ هذا المقال أن يرى نفسه: امتداداً لجذور لا تتبدل، وقيمٍ أصيلة لا تنحني.