منذ أن نطق الحديد (المذياع)، وتحركت العربة دون دابة تجرها(السيارة)، وأخذت البوصلة الصغيرة في يد الإنسان بعض وظائف النجوم في الاستدلال على المكان والاتجاهات؛ والمجتمعات تعيش رعب الفناء على يد هذه الخوارق الصناعية، وتترقب متى يتمرد هذا الحديد الناطق ويبيد ببأسه هذه الأرض بمن فيها، فيخرج الإنسان الشرير من شباك التلفزيون منتشرًا في كل بيت ومدينة، وتدوي الصيحات المزلزلة من أجهزة الراديو، وتخرج العربة عن سيطرة القائد، ويخرج الجان من البوصلة السحرية ليبيد الإنسان ويأخذ مكانه. ومع كل تطور للتقنية يرتفع سقف استيعاب المجتمعات لهذه التقنية، ويأتي حجم هذا الاستيعاب متوافقًا مع مستوى المجتمع الفكري والعلمي والحضاري، فالمجتمعات الأكثر قربًا من المعرفة والعلم وحقيقة الأشياء وطبيعتها؛ يكون هذا الفزع في أدنى مستوياته مع عدم إنكار أن هناك ومن داخل هذه المجتمعات الأكثر تقدمًا من يكون أكثر رعبًا على مصيره الإنساني الوجودي، وكأنه يعيش في مجتمع أكثر تخلفًا وبدائية، وهذه جبلة بشرية (إن الإنسان خلق هلوعًا). ولكن حتى لا نسهب ونذهب بعيدًا عن دائرة عنوان المقال، ونحاول أن نجيب بشكل مباشر على السؤال، فيمكن القول إن كل الفلسفات المتعمقة في الوجود ومفاهيمه وماهيته ونهايته، تمنحنا أدوات تحليل فاحصة ودقيقة لكل ما يدور في أنفسنا، وتناولنا إجابات كبرى ثابتة ويقينية تنطوي تحتها إجابات فرعية متعددة ومتغيرة بحسب الزمان والمكان والعلم الذي وصلنا إليه، وهذه المخترعات التي نراها وندرك عظمة مبتكريها وقدراتهم الاستثنائية، وندرك كذلك عظمة هذه الاختراعات والتقنيات، إلا أن جميع ما نراه في حقيقته ما هو إلا محاكاة لصور وجدت لنستدل بها ونأخذها (كتالوجات عامة) لمخترعات ممكنة. الطائرات بكل أشكالها المدنية والحربية والخدمية ما هي إلا محاكاة لطائر أو حشرة، والغواصة ما هي إلا محاكاة لحوت ضخم يملك قدرة على البقاء في أعماق قد لا تصلها أي غواصه، والسيارة ما هي إلا محاكاة لدابة في وظيفتها (لتركبوها وزينة)، وآلة التصوير ما هي إلا محاكاة للعين، والذكاء الاصطناعي ما هو إلا محاكاة للإنسان. محاكاة مركبة بين عقل الإنسان وشكله وحواسه وملكاته وحركاته! الذكاء الاصطناعي في شكله الأخير الذي حاكى شكل الإنسان بطريقة مذهلة، ومُنح قدرات فائقة في التفكير والعمل والاستجابات جعلتنا ننبهر منه ونتعجب من قدراته الخارقة، ولكن هل هذا الإنسان المصنع يمكن أن يقوم بوظائف كاملة مثله مثل الإنسان المخلوق؟! الأكل والشرب بمراحله المتعاقبة من تناول الطعام إلى لفظه –أجلكم الله-، والحمل والولادة، واستقبال الصوت والصورة وتحليلهما، وتجدد الاستجابات مع كل حالة لا تشبه ما سبقها، والمشاعر الطبيعية والميول الفطرية، واستشعار التكاليف الدينية والالتزامات المجتمعية والأسرية! الإنسان الآلي والذكاء الاصطناعي والحيوان، ليسوا كالإنسان، فبالرغم من أن الغراب هو الذي علم الإنسان كيف يواري سوأة أخيه لكنه ليس مثل الإنسان، فلا نتوقع من غراب أن يخترع لنا غواصة أو طائرة أو حتى عربة طفل في المهد! هناك حدود مقدرة بين الأشياء، وحتى الإنسان وهو المثل الخارق عندما يتعلم ليصبح عالماً فلن يصل إلا إلى درجة محددة من العلم قدرها (العليم) سبحانه وتعالى، والإنسان قدره أن يكون خليفة الله في أرضه، وسيظل كل ما دون الإنسان أقل من الإنسان، وفي دائرته المحددة بقدرة عليم حكيم خلق الكون بما فيه ومن فيه بنظام محكم دقيق. فالذكاء الاصطناعي في شكله الإنساني أو أشكاله المختلفة من برامج وتطبيقات سيذهلنا، ويجعلنا نركن إلى الكسل لحين، وسيظل أداة فيها جن البوصلة وبأس الحديد الناطق وتهور العجلة وعظمة قدرة عقل الإنسان التحليلية والتوليدية، ولكنه في كل أحواله حالة محاكية للإنسان لن تصل للسيطرة عليه وإبادته وأخذ مكانه على هذه المعمورة؛ والله أعلم.