تزدحم لغتنا اليوم باستعمالاتٍ تُقال على عجل، فيغيب عنها التمييز الدقيق بين ألفاظٍ ظنّ الناس أنها سواء. ومن أكثر الأخطاء شيوعًا قولهم في المكاتبات والرسائل: "بعثت لك رسالة"، أو "سأبعث لك بريدًا" ومع أن اللفظ مألوف، إلا أن الذائقة العربية السليمة وأوضح منها البيان القرآني تدل على أن هذا الموضع ليس موضع بعث، بل موضع إرسال. يتأتّى معنى البعث في العربية من أصلٍ يدل على الإثارة والإحياء والتحريك بعد سكون. ولذلك جاء في القرآن مقرونًا بأعظم مشهد يهزّ الوجود: بعث الأموات، قال تعالى: ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِن بَعْدِ مَوْتِكُمْ البقرة 56، كما جاء البعث بمعنى الإرسال المقرون بمهمّة كبرى وتغييرٍ في الواقع، كقوله تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا آل عمران 164، وفي هذا السياق لا يكون البعث مجرّد نقلٍ لشيء من مكانٍ إلى آخر، إنما تحريك إراديّ لخطة، أو إنفاذ مهمة، أو إحياء حال بعد موت. من هنا ندرك أن «البعث» يحمل شحنة دلالية عالية، لا تُستحضر من أجل رسالة يومية أو مراسلة عابرة. هو فعل ثقيل، يتصل بالنهضات، والبعثات، والقيام بعد رقاد. أمّا الإرسال، فهو أخفّ دلالة، وأقرب لمعنى النقل والتوجيه والتسيير، لذا نجد القرآن يستعمله في المقامات التي تتعلق بتوجيه الخطاب والرسالة: إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ يس 14، وقوله: إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ نوح 1، الإرسال هنا هو تبليغ رسالة، أو نقل خطاب، أو توجيه أمرٍ وجِّه إلى من يبلّغه ويبلّغه عنه. وهذا تمامًا ما نفعله حين نرسل بريدًا إلكترونيًّا أو خطابًا أو طلبًا. والسؤال: لماذا يلتبس اللفظ -أحيانًا- على الناس؟ قد يكون السبب في التباس اللفظين أنّ كلَّ مبعوثٍ مُرسَل، وليس كلّ مُرسَل مبعوثًا. فالرسول يُبعث حين يكون مُكلّفًا بمهمّة تغييرية كبرى، لكنه يُرسَل حين يبلّغ رسالة. والسياق هو الذي يرفع أحدهما فوق الآخر. حين نقول في المخاطبات الرسمية أو اليومية: "بعثت لك الملف"، فنحن نضخّ في العبارة ما ليس فيها، ونستحضر دلالات البعث الثقيلة في موضع لا يتجاوز نقل بيانات. والأدقّ قولنا: أرسلتُ لك الملف أو أحلتُه إليك أو وجّهته لك. فاللغة ليست زخرفًا، إنما مفاتيح المعاني، وكل مفتاح وُضع لبابٍ محدد. فالفرق بين (بعث وأرسل) ليس فرقًا لفظيًا، بل فرقٌ في مستوى الحدث نفسه: فالبعث ولادةٌ من جديد، أمّا الإرسال فنقل وانتقال. ولعلّ في هذا التمييز ما يردّ للعبارة رصانتها، وللاستعمال العربي نُبله، وللرسائل اليومية قدْرها الذي يليق بها... فلا نرفعها إلى مقام البعث، ولا نُنزِل البعث إلى مقام الرسالة.