تقول نظرية (تدفق المعلومات على مرحلتين) إن الرسائل الإعلامية في الغالب لا تنتقل من الوسيلة إلى الجمهور انتقالاً مباشراً، بل تمر عبر مجموعة وسيطة من الأفراد الذين يمتلكون اطلاعاً أوسع ومكانة اجتماعية أو معرفية تمنحهم تأثيراً أكبر، هؤلاء هم (قادة الرأي)، وهم الذين يعيدون إنتاج الرسالة ويضيفون عليها معاني جديدة قبل أن تصل إلى الجمهور العام. والنظرية لصاحبها الباحث الأمريكي الشهير بول لازارسفيلد، والتي ظهرت في الأربعينيات من القرن الماضي، تفترض أن الجمهور ليس متلقياً سلبياً، بل يتفاعل مع الوسيلة ضمن سياق اجتماعي. فالفرد لا يشكل رأيه بناءً على ما يسمعه أو يراه فقط، بل بناءً على ما يقوله أشخاص يثق بهم ويتفاعل معهم يومياً هم قادة الرأي، مثل أفراد العائلة، والأصدقاء، والزملاء، والمعلمون والمعلمات، وغيرهم. هنا يصبح التأثير الإعلامي عملية تفاوض اجتماعي، وليس مجرد استقبال مباشر. حسب هذه النظرية، قادة الرأي يفحصون المعلومات، ويفسرونها، ويربطونها بالقيم المجتمعية الخاصة بهم، مما يمنح رسائلهم قوة أكبر من الرسالة الأصلية الصادرة عن وسائل الإعلام. وفي السياق الأصلي للنظرية، يقصد بقادة الرأي تلك الفئة من الأفراد الذين يمتلكون قدراً أعلى من الاطلاع، والمتابعة، والاهتمام بالشؤون العامة مقارنة بالجمهور المحيط بهم. ويتميّزون بقدرتهم على فهم الرسائل الإعلامية وتحليلها، ثم إعادة صياغتها وتفسيرها للآخرين بأسلوب أكثر وضوحاً وقرباً من تجاربهم اليومية. لذلك، فإن وجودهم يجعل عملية التأثير الإعلامي غير مباشرة، لأن الجمهور غالباً لا يتعامل مع الرسالة الأصلية بقدر ما يتعامل مع النسخة التي يقدمها قائد الرأي عبر موقعه الاجتماعي أو معرفته أو خبرته. بهذه الطريقة، يصبح قادة الرأي حلقات وسيطة تنقل المعنى وتعدله، وتوجه التفاعل الاجتماعي مع المحتوى الإعلامي، مما يمنحهم دوراً محورياً في صياغة الاتجاهات وتكوين الرأي العام. وحالياً، في عصر الاتصال الرقمي، اكتسب هذا الإطار النظري أهمية جديدة. فالمنصات الاجتماعية أعادت تشكيل البنية الاتصالية، لكنها لم تلغي وظيفة قائد الرأي، بل على العكس، صارت أكثر أهمية. فظهر الآن ما يسمى (المؤثرون influencers)، وهم امتداد مباشر لمفهوم قادة الرأي، لكنهم يعملون ضمن بيئة تقنية توسع نطاق تأثيرهم، وتضخمه، وتسرع انتشاره. المؤثر اليوم لا يخاطب دائرة اجتماعية صغيرة كما كان الحال في الدراسات الكلاسيكية، بل يخاطب جماهير قد تصل إلى الملايين. فالمنصات الرقمية تعمل على تعزيز هذا الدور من خلال البرمجيات التي تدفع المحتوى المرتبط بأشخاص ذوي نشاط ملحوظ. وبذلك يصبح المؤثر نقطة عبور سهلة للمعلومات، سواء كانت أخباراً أو محتوى ترفيهياً أو رسائل تسويقية. فالجمهور حالياً لا يتلقى المحتوى من المؤسسات الإعلامية مباشرة، بل غالباً من المؤثر الذي يعيد صياغته بأسلوب سردي شخصي يخلق شعوراً بالثقة والحميمية. هذا التخصيص في العرض يجذب الجمهور، ويجعل تأثير المؤثر أقوى من تأثير الوسيلة الإعلامية ذاتها. كما أن المؤثر يقوم بوظيفة تفسير الواقع للجمهور. فبدلاً من قراءة تقرير طويل أو تحليل معمق، ينتظر الجمهور أن يقدم المؤثر لهم المختصر المفيد، ويعطيه معنى جاهزاً وسهل الاستهلاك. هذه العملية تعيد إنتاج نظرية تدفق المعلومات على مرحلتين، إلا أن السياق الرقمي يجعل العملية أكثر تعقيداً، لأن المؤثر بدوره يتأثر بالبرمجيات والمعلنين وضغط الجمهور، مما يجعل تدفق المعلومات سلسلة متعددة الطبقات، وليست مرحلتين فقط. ختاماً، هذا يدلنا على أن البنية الاجتماعية للاتصال لا تتلاشى بتطور التكنولوجيا، بل إن التقنية تعيد تفعيل الوسيط البشري وتمنحه أدوات جديدة، لهذا يعد فهم ظاهرة المؤثرين جزءاً أساسياً من فهم التأثير الإعلامي المعاصر.