تُعد دراسات التأثير الإعلامي أحد المحاور الأساسية في تاريخ بحوث الاتصال، إذ سعت منذ بدايات القرن العشرين إلى فهم الكيفية التي تؤثر بها وسائل الإعلام في الجماهير، وكيف يمكن للرسائل الإعلامية أن تغيّر المواقف والاتجاهات والسلوكيات. وقد مرت هذه الدراسات بمراحل متعددة، بدأت بنموذج التأثير القوي والمباشر، وتطورت تدريجياً نحو نظريات التأثير المحدود والمشروط، وصولاً إلى دراسات التأثير الطويل المدى والتراكمي. يُعد هارولد لازويل من أبرز الرواد الأوائل في هذا المجال، حيث أسس في عشرينات وثلاثينات القرن العشرين نموذجاً تحليلياً لفهم الدعاية السياسية والإعلامية في زمن الحرب. وناقش كيف استطاعت الرسائل الدعائية تعبئة الجماهير وتشكيل المواقف السياسية، مما أدى إلى ما سُمّي لاحقاً ب(نظرية الرصاصة السحرية) أو (الإبرة تحت الجلد)، التي تفترض أن الرسالة الإعلامية تصنع أثراً فورياً ومباشراً في المتلقي دون مقاومة. أما في الأربعينات، فقد جاءت دراسات كارل هوفلاند في جامعة ييل لتقدم رؤية منهجية في دراسة التأثير والإقناع. فقد ركّز هوفلاند على كيفية تغيير الاتجاهات من خلال التعرض لرسائل إعلامية محددة، وأجرى سلسلة من التجارب النفسية لقياس أثر مصدر الرسالة ومضمونها وخصائص المتلقي. وخلص إلى أن عملية الإقناع ليست تلقائية، بل تعتمد على عوامل متعددة مثل: مصداقية المصدر، وفهم الرسالة، واستعداد الجمهور لتغيير مواقفه. وقد ساهمت أبحاثه في الانتقال من الفرضيات العامة عن التأثير المباشر إلى تحليل متى وكيف يتم تغيير الاتجاهات بحسب ظروف وخصائص محددة. وفي المرحلة نفسها تقريباً، ظهرت دراسات الباحث الأميركي الشهير من أصل نمساوي بول لازرسفيلد الذي أحدث تحولاً جذرياً في فهم العلاقة بين الإعلام والجمهور، من خلال دراسته حول الحملات الانتخابية الأميركية، فقد اكتشف لازرسفيلد أن تأثير وسائل الإعلام لا ينتقل مباشرة إلى الجمهور، بل عبر وسطاء يسمّون (قادة الرأي). وبهذا ظهرت نظرية تدفق المعلومات على مرحلتين، التي أوضحت أن الأفراد يتأثرون بآراء الناس من حولهم، وبآراء الأفراد الذين يثقون بهم ثقة شخصية، أكثر من تأثرهم بالرسائل الإعلامية المباشرة. وقد مثّل هذا التحول بداية ما يعرف بنظرية التأثير المحدود، التي رأت أن وسائل الإعلام ليست قوية كما كان يُعتقد سابقاً، بل تعمل ضمن شبكة من العوامل الاجتماعية والثقافية. بعد مرحلة التأثير المحدود التي هيمنت على دراسات الاتصال في الخمسينات والستينات، بدأ الباحثون في السبعينات بإعادة النظر في طبيعة تأثير وسائل الإعلام، حيث تبيّن أن ضعف التأثير ليس قاعدة مطلقة، بل يعتمد على الظروف النفسية والاجتماعية والسياقات الثقافية والسياسية التي يتحرك فيها الأفراد. وبذلك، ظهرت موجة جديدة من النظريات التي أكدت أن التأثير الإعلامي يمكن أن يكون قوياً ومستمراً على المدى الطويل إذا توفرت ظروف معينة، مثل: التعرض المتكرر للرسائل، وغياب مصادر بديلة للمعلومات، أو وجود حاجة معرفية أو عاطفية لدى المتلقي. ومن أبرز هذه النظريات نظرية الإدراك الاجتماعي التي طورها ألبرت باندورا، حيث رأى أن الأفراد يتعلمون السلوك من خلال الملاحظة والنمذجة عبر وسائل الإعلام، مما يجعلها عاملاً مؤثراً في تشكيل القيم والاتجاهات. كما برزت نظرية الغرس الثقافي لجورج جربنر، التي أكدت أن التعرض المستمر لمضامين التلفزيون يغرس في أذهان المشاهدين تصوراً معيناً عن الواقع الاجتماعي. ومع هذه التحولات، لم تعد دراسات التأثير تركز على القوة المباشرة للرسالة، بل على العمليات الإدراكية والتأثيرات الرمزية والتراكمية التي تمارسها وسائل الإعلام في تشكيل الوعي الاجتماعي على المدى الطويل.