في السنوات الأخيرة، تكرّرت العبارة الشهيرة: "البيانات هي النفط الجديد". جملة لامعة تجذب الانتباه، لكنها تُخفي وراءها حقيقة أكثر تعقيدًا، البيانات لا تصنع قرارًا ما لم تُقرأ في سياقها، وما لم تُفهم دوافعُها، وما لم يكشف محللُها ما وراء الأرقام. هنا تحديدًا يظهر دور الاستماع الاجتماعي بوصفه أداة تتجاوز الأرقام الجامدة إلى قراءة المجتمع نفسه. من المدهش أن جهات كثيرة ما زالت تنظر إلى وسائل التواصل الاجتماعي بوصفها لوحات أرقام ضخمة: عدد الإشارات، ونسب الظهور، ومعدل التفاعل... إلى آخره. لكن ماذا عن الأسئلة الأهم: من يتحدث؟ لماذا يتحدث؟ ما الذي يقلق الناس؟ ما الذي يبهجهم؟ كيف تتغير اللغة؟ وكيف يتحول الخطاب خلال ساعات؟ هذه الأسئلة لا تجيب عنها المؤشرات السطحية، بل يجيب عنها الاستماع الاجتماعي بصفته البوصلة التي تشير إلى الاتجاه الحقيقي للرأي العام. إن الاستماع الاجتماعي ليس مجرد مراقبة للضوضاء الرقمية، بل هو إصغاء واعٍ لصوت المجتمع. وهو القدرة على فرز ما هو عابر عمّا هو مؤثر، وما هو رد فعل لحظي عمّا هو تحوّل في المزاج العام. وهو، قبل ذلك، قراءة مشاعر الناس: غضبهم، ورضاهم، ومخاوفهم، وتطلعاتهم. من دون هذا الفهم، تصبح القرارات مثل السير في طريق مظلم بلا إضاءة. أما حين تستند الجهة إلى تحليل عميق للخطاب الرقمي، فإنها تملك ما يشبه "خريطة الوعي الجماعي" التي تساعدها على التحرك بسرعة تجاه الأحداث وإدارة سمعتها بذكاء وصياغة خطاب يلامس الناس بلغتهم وتوجيه سياساتها وفق ما يراه المجتمع لا ما تظنه التقارير. واللافت أن انتشار أدوات الذكاء الاصطناعي منح المؤسسات قدرة هائلة على جمع البيانات، لكنه جعل البعض يظن أن الأرقام وحدها كافية. في حين أن الذكاء الاصطناعي مهما تطور، سيظل عاجزًا عن فهم بعض التفاصيل: النبرة، والتلميح، والسخرية، واللهجات المحلية، والكنايات التي تملأ الفضاء الرقمي العربي. هذه التفاصيل تحتاج إلى عين بشرية تُدرك ثقافة المجتمع قبل أن تُدرك خوارزميات المنصات. إن الفرق بين الجهة التي تستمع للمجتمع، وتلك التي تكتفي برصد الأرقام، هو الفرق بين من يرى الصورة كاملة ومن يحدق في بكسل واحد ويظنه المشهد كله. في النهاية، يمكن القول إن الاستماع الاجتماعي لم يعد ترفًا أو مجرد أداة تحليلية، بل أصبح جزءًا أصيلًا من عملية صنع القرار. ففهم الناس ليس خيارًا؛ إنه حجر الأساس الذي تُبنى عليه الخطط والسياسات والاتصال المؤسسي.