وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى القَضَاءِ وَحُكْمِهِ بُؤْسُ اللَّبِيبِ وَطِيبُ عَيْشِ الأَحْمَقِ انتصف هذا البيت في ديوان الشافعي، المليء بالحكمة الخالصة والعِبر الصافية، التي استقاها من بصيرته وغزير علمه. وهنا تناول فكرةً ترددت على ألسنة الشعراء: وهي العلاقة العكسية بين طيب العيش ورجاحة العقل؛ فكلما زاد العقل رجاحةً قلّ نصيب صاحبه من راحة البال. بينما يطيب عيش الأحمق، أو «أخ الجهالة» كما سماه المتنبي: ذُو العَقْلِ يَشْقَى فِي النَّعِيمِ بِعَقْلِهِ وَأَخُو الجَهَالَةِ فِي الشَّقَاوَةِ يَنْعَم وذلك أن أصحاب العقول الراجحة في بحثٍ دائم عن المعاني وتحليل الأحداث وفهم التعقيدات، فيتعبهم إدراكهم حين يتوسّع، وقد يقودهم إلى نقد الواقع وموروثاته، لذا يصطدمون بموجات الرفض ونُدرة من يشاركهم ذات العمق، فيميلون للعزلة فيما يُعرف ب»البرج العاجي». أما الحمقى فيتقبلون الأشياء كما هي، والموروثات كما أُرسيت، وطُرق العيش كما وُجدت، ولا يكلفون أنفسهم عناء البحث حول حقائق الأمور أو طرح الأسئلة، أو تفكيك الأفكار المعقدة. لذا ينعمون بالعيش في المنطقة السطحية، فدائماً ما تكون الأعماق ظلماء. ويقول الشافعي: لكِنَّ مَن رُزِقَ الحِجى حُرِمَ الغِنَى ضِدّانِ مُفْتَرِقانِ أَيُّ تَفَرُّقِ وَأَحَقُّ خَلْقِ اللهِ بِالْهَمِّ امْرُؤٌ ذُو هِمَّةٍ يُبْلَى بِعَيْشٍ ضَيِّقِ الحِجا أي: العقل، وصاحب الحِجا هو العاقل المدبّر. يرى الشافعي هنا أن من أوتي رجاحة العقل ضاق عيشه، وكأن العقل والغنى ضدّان لا يجتمعان، لأن العقول الكبيرة غالبًا ما تنشغل بالبحث وبالأفكار، والنقد، والخروج عن المألوف. وقد ذكر أبو تمام المعنى ذاته حين قال: ينالُ الفتى من عيشهِ وهو جاهلٌ ويُكْدِي الفَتَى في دَهْرِهِ وَهْوَ عَالِمٌ ولَوْ كانَتِ الأرزَاقُ تَجْري على الحِجَا هلكْنَ إذَنْ مِنْ جَهْلِهنَّ البَهَائِمُ فهو يتفق مع الشافعي في أن الجاهل ينعم والعاقل يشقى، لكنه يستدرك بأن الأرزاق ليست بالعقل، ولو كانت كذلك لهلكت البهائم، إذ يُوزّعها الله بحكمته لا بذكاء العباد. ويقول الشافعي أيضًا: إِنَّ امْرَأً وَجَدَ الْيَسَارَ فَلَمْ يُصِبْ حَمْدًا وَلَا شُكْرًا لَغَيْرُ مُوَفَّقِ الْجَدُّ يُدْنِي كُلَّ أَمْرٍ شَاسِعٍ وَالْجَدُّ يَفْتَحُ كُلَّ بَابٍ مُغْلَقِ اليسار أي الغنى، والغنى بلا شكر لا توفيق فيه، والجَدّ (أي الحظ) يقرب البعيد ويفتح المغاليق. ولو أنه ذكر الجِّد «بكسر الجيم» لكان المعنى أبهى وأكمل. ويكمل بقوله: فَإِذا سَمِعتَ بِأَنَّ مَجدوداً حَوى عُوداً فَأَثمَرَ في يَدَيهِ فَصَدِّقِ وَإِذا سَمِعتَ بِأَنَّ مَحروماً أَتى ماءً لِيَشرَبَهُ فَغاصَ فَحَقِّقِ وَمِنَ الدَليلِ عَلى القَضاءِ وَحُكمِهِ بُؤسُ اللَبيبِ وَطيبُ عَيشِ الأَحمَق فمن كان موفقًا، بارك الله في أبسط ما عنده، حتى لو كان مجرد عود يابس فيثمر في يده. أما من كان محروم التوفيق، فلا ينتفع حتى بالشيء الضروري كالماء، بل قد يهلك به. خلاصة القول: إن الشافعي مُحق في وجهة نظره فكلما كبر عقل الإنسان وزاد إدراكه، زاد بؤسه، يقول البحتري معبراً عن ذات الفكرة: أَرى الحِلمَ بُؤساً في المَعيشَةِ لِلفَتى وَلا عَيشَ إِلّا ما حَباكَ بِهِ الجَهلُ . ولكن أمر الأرزاق لا يعلم حكمته إلا الله وليس له قاعدة تقاس بها الأمور.