من الملامح اللافتة في تجربة السياحة السعودية الحديثة، بروز مظاهر الكرم الشعبي تجاه الزوار الأجانب، حيث يتسابق بعض المواطنين إلى دعوة السياح لتناول الوجبات، أو تحمل نفقات إقامتهم وتنقلاتهم؛ هذه المبادرات، على الرغم من نبلها الإنساني وجذورها العميقة في الثقافة السعودية، فأنها تثير جدلاً مشروعاً حول الحدود الفاصلة بين الكرم كقيمة اجتماعية وثقافة أصيلة، والسياحة كصناعة اقتصادية قائمة على مبدأ تبادل المنفعة. الكرم في الوجدان السعودي ليس سلوكاً مستحدثاً، بل إرث حضاري يعبر عن المروءة وحسن النية؛ غير أن السياحة، وفق المفهوم الاقتصادي الحديث، تعتمد على الإنفاق الفعلي للسائح بوصفه مؤشراً مباشراً على حيوية القطاع وقدرته على خلق فرص وظيفية وتنمية الخدمات المحلية؛ لذلك، حين يبادر كثير من المواطنين عن طيب خاطر بمصاريف السائح، فإن الأثر الاقتصادي يتحول من الإيجابية إلى العكس، إذ يتراجع متوسط الإنفاق السياحي وتفقد البيانات الميدانية دقتها، بما يضعف إمكانية التقييم الموضوعي لنجاح التجربة الوطنية لقطاع السياحة. ومن ناحية أخرى، فإن الممارسات المفرطة في الكرم قد تنتج تصورات غير منضبطة لدى بعض السياح الوافدين، خصوصا السياح من البيئات التي تميل إلى استغلال كل ما هو مجاني كطبيعة لشخصية ثقافاتهم، فينشأ سلوك استهلاكي غير صحي يربط زيارة المملكة بالحصول على خدمات مجانية أكثر من الاستمتاع بما يتميز به وطننا الغالي من مواقع تاريخية ومعالم ثقافية ومناطق طبيعية ومشاريع حضارية وفعاليات عالمية وأنشطة ترفيهية ومناسبات رياضية؛ هذا النمط من الكرم الأصيل والعفوي لا يخدم السياسات العامة لمنظومة السياحة، والتي بنيت على هدف رفع جودة التجربة وتحقيق مردود اقتصادي وطني مستدام. فالتوازن المنشود يكمن في توجيه الكرم الشعبي نحو مجالات مؤسسية ومنظمة؛ ويمكن مثلاً لقِطاع الإيواء والمطاعم والفعاليات أن يضمن روح الضيافة السعودية وأصالتها في باقات مدفوعة تقدم بأسلوب احترافي ويضمن للزائر شعور الترحيب دون أن يلغى تحقيق البعد الاقتصادي؛ كما أن تعزيز الوعي المجتمعي بأهمية الإنفاق السياحي يسهم في تحويل الحماس الشعبي إلى دعم حقيقي للاقتصاد الوطني بدلاً من أن يتحول إلى إعفاء دائم للسائح من التزاماته. إن السعودية اليوم أمام فرصة فريدة لتقديم نموذج متوازن يجمع بين القيم الأصيلة والبنية الاقتصادية الحديثة وثراء مقومات قطاعها السياحي؛ فالكرم سيبقى رمزا من رموز الشخصية السعودية وأصالة هويتها الوطنية، لكنه يحتاج إلى أن يدار بعقلية تخطيط تؤمن أن السياحة ليست باباً للإنفاق المجاني، بل استثمار في صورة الوطن ومصدر للدخل والتنمية؛ ولهذا نقول إن الشعب السعودي السخي لا يحتاج لإثبات كرمه، فهو متجذر في ثقافته منذ قرون، إنما التحدي اليوم هو أن نعيد ضبط البوصلة بين الكرم كقيمة، والسياحة كصناعة؛ فالسائح الذي يدفع مقابل الخدمة هو الذي يدعم الوطن أكثر من السائح الذي يتلقى الهدية ثم يغادر ليحكي كيف عاش فترة زمنية مجانية.