تحتكر الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن (الولاياتالمتحدة، روسيا، الصين، فرنسا، والمملكة المتحدة) حق النقض "الفيتو"، الذي يمنح أيًا منها سلطة مطلقة لإسقاط أي قرار دوليّ بصوت واحد. هذا الامتياز الذي أفرزته الحرب الغربية (العالمية) الثانية عام 1945 بذريعة ضمان وحدة "المنتصرين" لمنع حرب عالمية ثالثة، أثبت الواقع المر أنه تحوّل إلى أداة تكريس هيمنة وتحصين مصالح مسؤولي هذه الدول من أي محاسبة. وتكشف سجلات الأممالمتحدة (خريطة دقيقة للمصالح الجيوسياسية، والتحالفات الاستراتيجية، والخطوط الحمراء التي رسمتها القوى الكبرى لحماية نفسها وحلفائها) أن الفيتو استُخدم أكثر من 300 مرة حتى نوفمبر 2025، ثلثاها من الولاياتالمتحدةوروسيا وحدهما. إذ استخدمته واشنطن 48 مرة منها لحماية إسرائيل منذ عام 1972، ما مكّن سلطات الاحتلال من مواصلة الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية وارتكاب المجازر، وقد أودت (آخرها) بحياة أكثر من 70 ألف فلسطيني في غزة منذ أكتوبر 2023. في المقابل، استخدمت موسكو حق الفيتو نحو 19 مرة منذ 2011 لحماية نظام الأسد، ما أعطاه رخصة قتل أكثر من 600 ألف سوري وجعل نحو 13 مليونا ما بين نازح ومهجّر (داخل وخارج البلاد). وبطبيعة الحال ظهرت الصين، بعد صمت استراتيجي طويل، لترفع وتيرة الفيتو في السنوات الأخيرة وأحيانا بالتضامن مع روسيا، بتركيز على مصالحهما المشتركة. وتقول وقائع من التاريخ إن ماضي هذه الدول أكثر دموية من حاضرها. فالولاياتالمتحدة الأميركية أحرقت هيروشيما وناغازاكي بقنبلتين نوويتين قتلتا 220 ألف مدني في أيام، ثم شاركت في الحرب الكورية (1950-1953) التي قُتل فيها ما بين 2.5 إلى 4 ملايين شخص، معظمهم مدنيون. ثم شنّت حرب فيتنام (1955-1975) التي أزهقت أرواح نحو 3.8 ملايين فيتنامي، ورشّت 20 مليون غالون من مبيدات الأعشاب السامة "العامل البرتقالي" الذي شوه أجيالًا (أرشيف الحكومة الأميركية 2019). وبخصوص بريطانيا، فماضيها الاستعماري لا يستوعبه التاريخ من جرائم ممنهجة ضد الإنسانية، ومجازر جماعية إلى نهب موارد وتجويع الشعوب سواء في شبه القارة الهندية، أو إفريقيا وأنحاء أخرى. وهي مع شريكتها فرنسا من قسم الشرق الأوسط في اتفاقية بسايكس-بيكو 1916، ما زرع إسرائيل وبذور الصراعات التي لا تزال مشتعلة. ونأتي إلى فرنسا (بلد الحريات) التي ارتكبت مجازر في الجزائر (مليون ونصف المليون شهيد) وكينيا (90 ألف قتيل ومليون معتقل) وفي بلدان أخرى آلاف الضحايا المنسيين. أمّا روسيا (الاتحاد السوفيتي) فيدوّن التاريخ مآسي جيوشها حين اجتاحت المجر سنة 1956، وتشيكوسلوفاكيا سنة 1968، وفي أفغانستان (1979-1989 مليون قتيل)، واليوم يتكرر الحال في أوكرانيا تذكيرا ببعض دوائر التاريخ. وهذا النظام الخماسي المهيمن ما انفك يمنع اليوم أي إصلاح لخطأ تاريخي على الرغم من المتغيرات العالمية. ولهذا فشلت محاولات توسيع المجلس 12 مرة منذ 1993، مع أن الدول الخمس لا تمثل اليوم سوى أقل من 25 % من سكان العالم. ونخلص من هذا كله، إلى بعض الآثار السلبية الكارثية لوضع غير صحيح بسبب مجلس الأمن الدولي ونظامه، فعلى المستوى الاقتصادي، كلفت الأسلحة والحروب التي يحميها الفيتو أكثر من 18 تريليون دولار منذ 1945، حَسَبَ معهد ستوكهولم لأبحاث السلام 2023. وبيئيًا، أطلقت هذه الحروب قرابة 2.3 غيغا طن من انبعاثات الكربون منذ 1990. وعلى المستوى الإنساني، يوجد اليوم (عام 2025) أكثر من 122 مليون نازح قسريًا وهو أعلى رقم في التاريخ، 70 % منهم في مناطق تتدخل فيها إحدى الدول الخمس مباشرة أو عبر الفيتو. وتأسيسًا على ذلك، فإن هذه الدول دائمة العضوية لا تحفظ الأمن العالمي، بل هي المنتفع من الفوضى التي تخلقها وتحميها. وهذا يعني أن التهديد الحقيقي للسلام العالمي مكانه الأوحد قاعة مجلس الأمن بنيويورك، حيث يجلس خمسة لاعبين يقامرون على شعوب العالم في من يحيا ومن يموت. * قال ومضى: من تعلّم تكلّم.. ومن تكلّم تألّم.