لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد وعود بعيدة المنال، بل أصبح نبضًا حيًا يسري في شرايين الواقع، يُعيد صياغة ملامح العالم من خلال الخوارزميات الخارقة.. إنه ثورة هادرة تجتاح كافة القطاعات والتخصصات، من معامل الابتكار إلى قاعات الإدارة، غير أن هذه الثورة الصناعية الرابعة، رغم إنفاق مئات المليارات على بناء نماذجها ومنصاتها المتلألئة، تواجه عائقًا خفيًا: بطء التبني في صفوف الموظفين، ففي استطلاع حديث أجراه مركز بيو للأبحاث، كشف أن 63 % من العاملين في الولاياتالمتحدة يقتصرون على استخدام محدود للذكاء الاصطناعي، أو يبتعدون عنه كليًا في مهامهم اليومية. يبدو لي أن جذر هذه الفجوة يغوص في أعماق النفس البشرية، ويتلخص في إيمان الأشخاص بكفاءتهم الذاتية، والواقع العملي يشير إلى أن الكثيرين لا يحاربون التكنولوجيا بحد السيف، بل يخشون أن تكشف ضعفهم، فيفضلون الابتعاد عنها خوفًا من السقوط في هاوية الخطأ، وهنا تكمن نقطة الضعف في صرح المؤسسات: تركيزها على صقل المحرك الآلي، دون إشعال شرارة الثقة في قلوب من يديرونه، وكما أوضح البروفيسور ألبرت باندورا، أبو نظرية الكفاءة الذاتية، فإن المهارة وحدها لا تُحرك السلوك، بل الإيمان العميق بقدرة الفرد على تسخيرها كسيف بطل، في معركة حامية الوطيس. تخيل معلمًا يقف أمام لوحة رقمية متلألئة بأدوات سحرية، لكنه يتردد، يخشى أن يفقد سيطرته على فصله، فهو يستخدمها سطحيًا، أو يتجاهلها، وبالتالي، تضيع فرص الإبداع، وفي عالم الأعمال، يندفع الرؤساء التنفيذيون نحو اعتماد أدوات وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، ويطالبون بنتائج فورية، غير أن الموظفين يتساءلون في صمت: كيف أدمجها في دوري؟ هل أسيطر عليها دون أن تبتلعني؟ ووراء هذا التردد، شبح مألوف: الخوف من أن تحل الآلة محل الإنسان، كما حلت الآلة البخارية محل الخيول في عصر مضى. وفي خضم هذه العاصفة، يبرز الحل كضوء في ليلة عتمة: تدريب يُغذي الروح قبل اليد.. تدريب مخصص لكل وظيفة، يركز على المستخدم كجوهرة في تاج، وليس تدريباً عاماً يُغرق الجميع في بحر واحد، وإذا كان الشباب يركبون موجة التكنولوجيا بثقة الريح، فإن المخضرمون، الذين اضطروا للتكيف في منتصف الطريق، يعتريهم شعورًا بالضعف، مما يدفعهم للابتعاد، وإن كانت تجاربهم الأولى مع الذكاء الاصطناعي محبطة، كجرح يترك ندبة، فإنها تجربة أليمة تُرسخ لديهم رفضًا عميقًا، والحل الأمثل يكمن في جسر الإقناع: تدريب يحترم الخلفيات الثقافية والاجتماعية، تدريب يبني الكفاءة الذاتية كقلعة حصينة، ومع استمرار المؤسسات والشركات في ضخ المزيد من الاستثمارات في تقنيات الذكاء الاصطناعي، يجب أن تُوازن الأمور باستثمار مماثل في الإنسان، الذي يظل القلب النابض في سوق العمل، نعم، سيُغير الذكاء الاصطناعي وجه القوى العاملة إلى الأبد، لكنه لن يمحوها، بل سيرفعها إلى قمم جديدة إذا ما تسلحت بالتدريب الجيد، وعندئذٍ، يصبح الذكاء الاصطناعي حليفًا يعزز الكفاءة، ويجعل المؤسسات تزهو كنجوم في سماء الابتكار.