يخيَّل إلى بعض الناس أن قارعة الطريق هي جانبها البعيد، أو طرفها الموحش الذي لا يمرّ به أحد. فيقال: تركه في قارعة الطريق، يريدون بذلك أنه نبذه في العراء أو ألقاه على الهامش. غير أنّ اللغة - بصدقها الدقيق وميزانها العادل - تأبى هذا الفهم، وتعيد العبارة إلى موضعها الصحيح: في قلب الطريق لا على أطرافه. ف»القارعة» في أصلها مأخوذة من قَرَعَ، أي طرق وضرب بشدّة، ومنه قرع الباب إذا طُرق، والقارعة هي ما يقرع الأسماع من شدّة أو داهية. قال تعالى: (القارعة ما القارعة وما أدراك ما القارعة) القارعة1-3، فهي الحادثة العظيمة التي تهزّ الوجدان وتطرق القلوب فزعًا. فإذا أُضيفت إلى الطريق صارت قارعة الطريق هي الموضع الذي تُقرَع فيه الأقدام والنعال، أي الممرّ الذي يكثر فيه السير، ويُطرَق بكثرة مرور الناس. جاء في لسان العرب: قارعة الطريق معظمه وممرّ الناس منه. فهي إذًا وسط الطريق ومجراه الأوضح، لا هامشه البعيد. ولهذا استعملها العرب مجازًا في معنى العلانية والظهور، فقالوا: جعل حديثه في قارعة الطريق أي أذاعه علنًا، وجهر به، فصار على مرأى ومسمع من الناس. فالقارعة ليست موضع النسيان، بل موضع الحركة واللقاء، حيث تتلاقى الخطى وتتقاطع الحكايات. ومع ذلك، فإنّ الوجدان اللغوي المعاصر ابتدع استعمالًا آخر لعبارة على قارعة الطريق، يُراد به التهميش أو الإهمال، كما يُقال: المعاني على قارعة الطريق، أي إنّها مبتذلة، فقدت قيمتها من فرط تكرارها أو سهولة تناولها. وهنا تبدو المفارقة: فالموضع الذي كان في اللغة القديمة رمزًا للظهور والحياة، صار في الوجدان الحديث رمزًا للابتذال والتهميش. وهذا التحوّل ليس غريبًا على اللغة، فهي مرآة لوجدان المتكلمين بها، تتحوّل دلالاتها كما تتبدّل نظرتهم إلى الأشياء. فإذا كان وسط الطريق في زمن العرب موضعًا للمخالطة والحركة والحياة، فقد غدا في زمننا - الذي يميل إلى الخصوصية والانكفاء - موضعًا للفوضى والضجيج، وما يُقال فيه صار أقرب إلى ما يُلقى في العراء بلا عناية. غير أنّ العربية تُذكّرنا دومًا بأنّ المعنى الأصيل لا يضيع، وإن غاب في زحمة الألفاظ. ف»قارعة الطريق» - على عكس ما يُظن - هي الموضع الذي تُقرَع فيه الأرض بأقدام المارّة، أي أكثر الأماكن حياة وظهورًا. ومن ثمّ، فالقول إن «المعاني على قارعة الطريق» يمكن أن يُفهم بطريقتين: في الفهم الشعبي بمعنى التكرار والابتذال، وفي ضوء الأصل اللغوي بمعنى الظهور والتداول، أي المعاني التي تعيش بين الناس ولا تنغلق في أبراجها. هكذا تكشف لنا اللغة - في بساطتها وعمقها - كيف يمكن أن يختبئ الخطأ في وضح المعنى، وكيف تبقى الكلمات مخلصة لأصولها مهما طال عليها الاستعمال الملتبس. وفي كل لفظٍ كهذا، تلوح لنا حكمة العربية التي لا تنقضي دهشتها: أن نعود إلى الجذر لنفهم الثمرة، وإلى الأصل لنستبين الطريق. المراجع اللغوية: 1. ابن منظور، لسان العرب، مادة (قرع). 2. الزبيدي، تاج العروس من جواهر القاموس، مادة (قرع). 3. الفيروزآبادي، القاموس المحيط، مادة (قرع). 4. مجمع اللغة العربية بالقاهرة، المعجم الوسيط، مادة (قرع).