في عالمٍ لم تعد الحروب تُخاض فيه بالمدافع والدبابات، حيث برزت معركة جديدة تُدار بالعقول لا بالسلاح، إنها الحرب الإعلامية الحديثة، حيث لم تعد الصورة مجرد وسيلة لنقل الأحداث، بل أصبحت أداة لتوجيه الفكر وصناعة الرأي العام، إن الأفلام والمسلسلات اليوم ليست أعمالًا ترفيهية بريئة فحسب، بل هي جيوش ناعمة تتحرك بخفة عبر الشاشات، تنشر القيم، وتعيد تشكيل المفاهيم، وتؤثر في وعي الأجيال دون أن يشعر أحد، كثيراً من الدول الكبرى فهمت مبكرًا خطورة هذا السلاح، فاستثمرت في السينما والتلفزيون لتصدير ثقافتها للعالم، حتى أصبح المشاهد في أقصى الشرق يعيش تفاصيل الحياة الغربية كما لو كانت جزءًا من واقعه، وبهذا الشكل، أصبحت الدراما وسيلة غزو ثقافي هادئة لكنها فعالة، تزرع الإعجاب والانبهار وتدفع الناس لتقليد كل ما يشاهدونه من أسلوب حياة وسلوكيات، حتى وإن كانت بعيدة عن واقعهم وقيمهم، وفي مقابل ذلك، أدركت المملكة العربية السعودية أهمية الدخول إلى هذا الميدان بوعي وتخطيط، إذ لم يعد مقبولًا أن تُروى قصتنا بأصوات الآخرين، أو أن تُختزل ثقافتنا في مشاهد سطحية، واليوم تمتلك المملكة الرؤية والإمكانات لصناعة محتوى سينمائي ودرامي يعكس أصالتها، ويُبرز عمقها التاريخي والإنساني، إن الدراما السعودية ليست مجرد وسيلة ترفيه، بل هي وسيلة تعريف بالعالم كله، ومن هذا المنطلق، فإن إنتاج المزيد من الأفلام السعودية يُعد ضرورة ثقافية واقتصادية في آنٍ واحد، نحن بحاجة إلى أعمال تروي تفاصيل حياتنا اليومية، وتُظهر ما نملكه من تنوع بيئي وثقافي واجتماعي، فكم سيكون مؤثرًا أن يشاهد العالم فيلمًا يصور حياة البدو في صحراء النفود الكبرى، وكذلك في المدينة أو يعرض قصة شاب من عسير يحافظ على تراث أسرته وسط التحولات الحديثة، أو مسلسلًا يجسد العلاقة الإنسانية العميقة بين أهل القرى في الجنوب أثناء موسم الحصاد، أو عملًا دراميًا يعرض جدة القديمة بأسواقها وروحها التجارية، أو فيلمًا وثائقيًا عن جبال تبوك وسحرها الطبيعي الذي يجمع بين الجبال والثلوج والدفء الإنساني، وكذلك حياتنا الحضارية وعلاقة الفرد السعودي بمحيطه،إن هذه الأعمال لا تقدم فقط مشاهد جميلة، بل تفتح نافذة على هوية وطنٍ متجذر في التاريخ ومتصالح مع الحاضر، وطنٍ يملك ثقافة غنية تستحق أن تُعرض على شاشات العالم بلغات متعددة،والقوة الناعمة لا تُبنى بالشعارات، بل تُصنع من خلال الإبداع الصادق الذي ينقل الصورة الحقيقية دون مبالغة أو تزييف، إن الدراما الوطنية الواعية يمكن أن تكون سلاحًا فكريًا يحمي المجتمع من الغزو الثقافي، بل ويحول الثقافة المحلية إلى مصدر فخر وتأثير عالمي، فحين يرى المشاهد الأجنبي الجمال الطبيعي والثقافي والاجتماعي للمملكة، سيتعامل معها بإعجاب واحترام، وحين يرى الشاب السعودي ذاته ممثلة في الشاشة بإيجابية وصدق، سيشعر بالاعتزاز والانتماء، ويمكن كذلك اظهار الحياة اليومية في مدارسنا العزيزة، إن الإعلام اليوم لم يعد مجرد وسيلة نقل، بل أصبح أداة لتشكيل المستقبل، ولهذا فإن الاستثمار في السينما السعودية ليس ترفًا ثقافيًا، بل مشروع وطني لبناء الوعي وتعزيز الصورة الذهنية للمملكة على الساحة العالمية، ومن يملك القدرة على رواية قصته، يملك أيضًا مفاتيح التأثير في الآخرين، لقد آن الأوان لأن تصبح الأفلام السعودية مرآة تعكس قيمنا وأحلامنا وتاريخنا، وأن يتحدث العالم عنا بما نصنعه نحن، لا بما يصنعه غيرنا، إنها معركة الوعي، وأبطالها ليسوا الجنود في الميدان، بل الكُتاب والمخرجون والمبدعون والفانون الذين يحملون الكاميرا ليرسموا وجه الوطن في ذاكرة العالم.