كان للأزمات العالمية المتلاحقة التي لا يكاد العالم يفيق من إحداها حتى يدخل في أخرى أشد منها تأثيرات بالغة على مستوى المعيشة والرفاهية في معظم بلدان العالم، حتى إن أكثر الدول التي لوحظ عليها تأثير هذه الأزمات كانت دول العالم الغربي المعتادة على نمط حياة معين، والتي توفر حكوماتها لمواطنيها نمط حياة مميزاً تحاكي بها غيرها من البلدان، ووصل الأمر أن تأثيرات هذه التغيرات انعكست على الوضع السياسي بشكل واضح وكانت سبباً مباشراً في صعود اليمين المتطرف إلى حكم العديد من أهم بلدانها وعززت الاستياء من المهاجرين الذين يعد أكثرهم عناصر فاعلة في بناء هذه الأوطان، مما أثر على التماسك الاجتماعي والروابط الاجتماعية بين أبناء المجتمع الواحد. وإن كان تأثير هذه الأزمات قد انعكس على دول العالم الغربي واتضح في تراجع مستوى الرفاهية بها فهو بالأحرى كان أشد اتضاحاً في العديد من بلدان الشرق الأوسط والعالم الثالث التي يشكل الفقراء والطبقات الكادحة بها نسبة غير ضيئلة تحوج إلى التركيز على برامج الحماية والرعاية الاجتماعية، لما لها من دور حيوي في حماية المجتمع وتماسك أفراده، وذلك عبر توفير شبكات أمان للأفراد والأسر ذات الدخل المحدود وتعزيز العدالة الاجتماعية وتقليل التفاوت الاقتصادي بين طبقات المجتمع، كون هذه البرامج تسهم في تحقيق هذه الأهداف من خلال تقديم الدعم النقدي والعيني للفئات الأكثر حاجة، وضمان الوصول للخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم، وتوفير برامج لتمكين الشباب والعمالة، وحماية الأطفال والنساء، والمساهمة في استقرار المجتمع وتقليل الجريمة والفقر. «الأزمات العالمية المتلاحقة أثرت بالغاً على المعيشة والرفاهية، خاصة في الغرب، مما أدى إلى صعود اليمين المتطرف واستياء من المهاجرين الفاعلين» تحديات قبل أيام نشر الكاتب إيشان ثارور مقالاً في صحيفة "واشنطن بوست" بعنوان "تراجع دولة الرفاهية عزز صعود اليمين المتطرف"، وفيه سلط الضوء على التحديات التي تواجه أنظمة الرعاية الاجتماعية في أوروبا، حيث أدى التقشف المالي إلى تفاقم السخط الشعبي، مما مهّد الطريق لصعود الأحزاب الشعبوية اليمينية المتطرفة. كما حذّر الخبير الأممي أوليفييه دي شوتر في مقال له من أن هذه السياسات التقشفية لا تقتصر على تعزيز الاستياء من الهجرة فحسب، بل تُقسم المجتمعات وتُضعف الروابط الاجتماعية، مشدّدًا على ضرورة توسيع الحماية الاجتماعية كاستثمار أساسي في بناء الثقة والاستقرار، ومع ذلك يُبرز المقال تناقضات أخرى، مثل تحذيرات رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاغارد من تباطؤ النمو الاقتصادي ومخاوف من عودة سياسات دونالد ترمب التي قد تُعيد توجيه الموارد نحو الإنفاق العسكري على حساب الرعاية الاجتماعية. وباعتقادي أرى أن العالم بأكمله يحصد ثمار سياسات غربية جشعة لم تكن فيها دول هذا العالم أمام هذه السياسات إلا الحلقة الأضعف، فعلى سبيل المثال أنشأت الولاياتالمتحدة وحلفاؤها، بدعم من الشركات متعددة الجنسيات والمؤسسات التابعة لأصحاب المصالح، هيكلًا دوليًا مثل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لفرض سيطرة عالمية، كما أدى الاستغلال الرأسمالي المتوحش إلى الحصول على الثروات العالمية، مما أثار حروبًا واضطرابات في مجتمعات شتى حول العالم، وفيما كان يُستخدم الاستيطان الإسرائيلي كأداة للحفاظ على النظم الاستعمارية ومصالح واشنطن، تبرز فرنسا كمثال نموذجي واضح لهذا الوضع المتناقض، فرغم عدم امتلاكها مناجم ذهب، تحتل المرتبة الرابعة عالميًا باحتياطيات ذهب تصل إلى 2436 طنًا، بينما مالي -التي تنتج 50 طنًا سنويًا من 860 منجماً- لا تملك احتياطيات تُذكر، وفيما يُطلق الفرنسيون على المهاجرين الأفارقة لقب "لصوص" يبقى السؤال الملح: من هو اللص الحقيقي؟ معاناة الغرب اليوم، تنقلب هذه الآليات ضد الشعوب الغربية الكبرى ذاتها متمثلةً في معاناة السكان في الولاياتالمتحدة وألمانيا والمملكة المتحدةوفرنسا من تراجع الرفاهية، حيث يعاني كثيرون من ارتفاع التكاليف وصعوبة تلبية الاحتياجات الأساسية بينما تتراكم الثروات في أيدي نخبة صغيرة رغم الجهود الحكومية للسيطرة على التضخم، وكما أن هذه السياسات قد أضرت تاريخيًا بالكثير من الدول النامية ففي الوقت نفسه قد فاقمت اللا مساواة داخل الغرب الآن كما أضعفت نفوذ الغرب نفسه، وتجلت مظاهره واضحةً على الشعوب الغربية ما بين تآكل مستوى المعيشة بالتضخم وارتفاع أسعار الطاقة والغذاء وتآكل القوى الشرائية وتزايد الضغوط النفسية مثل القلق والاكتئاب من احتمالات فقدان الوظيفة أو انخفاض الأجور أو عدم اليقين الاقتصادي ونهايةً بتآكل الأسس التي قامت عليها هذه البلدان من استقرار الخدمات الصحية والاجتماعية لمواطنيها. وإذا كانت هذه هي الحال في دول العالم الغربي، فإن دول عالمنا العربي ومع تفاقم هذه الأزمات أحوج ما تكون إلى تكثيف برامج الحماية والرعاية الاجتماعية بحسب قدرات كل دولة وإمكاناتها، وذلك حفاظاً على تماسك مجتمعها وترابطه، خاصة مع ما كشفت عنه تقارير دولية عدة من عدم كفاية برامج الحماية الاجتماعية بالعديد من البلدان العربية حاليًا، كونها تعاني أوجه قصور كبيرة في التغطية والتمويل والكفاءة، إضافة إلى الحاجة الماسة إلى إصلاح هذه البرامج لتكون أكثر شمولاً وقدرة على الاستجابة للصدمات وأقدر على توسيع شبكات الأمان الاجتماعي لتشمل الجميع وضمان استدامة النظم في المستقبل. المملكة أنموذج الاستقرار أما في المملكة، وفي إطار رؤية 2030، المرتكزة على بناء مجتمع حيوي ينعم أفراده بالاستقرار والرفاهية، أولت الدولة هذا الأمر عناية كبيرة لتعزيز الاستقرار الاجتماعي وتحقيق العدالة وتوفير حياة كريمة لجميع المواطنين، إذ نرى برامج الحماية بها تسبق العديد من الدول الكبرى وقد اتضح ذلك جلياً خلال الأزمات الكبرى التي اجتاحت العالم ومنها جائحة "كوفيد 19" مثالاً، وتتمثل الحماية الاجتماعية في العديد من المبادرات الحكومية التي تهدف إلى توفير الدعم المالي والاجتماعي والصحي للفئات المحتاجة، مثل الأسر ذات الدخل المحدود، الأيتام، كبار السن، وذوي الإعاقة وأسر شهداء الواجب والطلاب المحتاجين ودعم المرأة والدعم السكني، وذلك لتخفيف آثار الفقر وتحسين مستوى المعيشة وتوفير الرعاية الصحية والاجتماعية للفئات الضعيفة ودعم الأسر ذات الدخل المحدود والأيتام وكبار السن وتعزيز التكافل الاجتماعي وتحقيق العدالة وتوفير فرص التدريب والتأهيل المهني وبرامج التمويل ودعم العمل الحر، ومن هذه البرامج برنامج حساب المواطن لتخفيف آثار الإصلاحات الاقتصادية على الأسر السعودية من خلال تقديم دعم مالي شهري، وكذلك الضمان الاجتماعي المطور بتوفير معاش شهري للأسر والأفراد الأكثر احتياجًا، وبرنامج دعم الكهرباء وكذلك برنامج دعم الغذاء وبرنامج التأهيل الشامل الذي يقدم دعماً مالياً وخدمات لذوي الإعاقة لمساعدتهم على الاندماج في المجتمع وبرنامج رعاية الأيتام وبرنامج الإسكان التنموي وبرنامج دعم الأسر المنتجة لتشجيعها على العمل والإنتاج عبر تقديم قروض ودعم فني وتسويقي وبرنامج دعم الزواج للشباب من ذوي الدخل المحدود وبرنامج دعم كبار السن وتوفير خدمات ورعاية صحية واجتماعية للمسنين لضمان حياة كريمة لهم، وفي مجال تخصصى تتبنى الدولة العديد من برامج الحماية الاجتماعية للمزارعين ومربي الماشية من خلال الدعم المالي والتقني، مثل برنامج "ريف" الذي يوفر الدعم المباشر لمختلف الأنشطة الزراعية، وبرنامج دعم صغار مربي الماشية الذي يمنح قروضاً ميسرة لمربي الماشية بين 50 إلى 250 رأساً، ومن خلال منصة "نما" التابعة لوزارة البيئة والمياه والزراعة. «تنقلب اليوم هذه الآليات الجشعة ضد الشعوب الغربية نفسها: ارتفاع التكاليف، تآكل المعيشة، وتراكم الثروات في أيدي نخبة صغيرة» ومع هذه الجهود الكبيرة إلا أن الأمر يواجه العديد من التحديات التي يجب الوقوف عليها استكمالاً لمتطلبات المرحلة، أهمها دقة البيانات والوصول إلى المستحق الحقيقي وكفاية الدعم ووصوله إلى الفئات الأكثر استحقاقاً فضلاً عن ضمان استدامته مع ضرورة المراجعة الدورية للاستراتيجيات والإجراءات وتحديثها أولاً بأول للوقوف على المستجدات ومرونة وفاعلية الدعم بحيث ينسجم مع التضخم والإصلاحات الاقتصادية التي تطرأ وكذلك الحاجة إلى فاعلية التنسيق ما بين الجهات المعنية بالحماية الاجتماعية من الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية والعمل والصحة والزراعة وغيرها من الجهات ذات العلاقة وأخيرا سرعة الاستجابة للمخاطر الطارئة نحو المرض أو البطالة أو الإعاقة أو الوفاة أو غيرها وضم الفئات المستحدثة. ختاماً، العالم اليوم على أعتاب مرحلة انتقالية جديدة نحو نظام دولي جديد يعتمد على توازن يرجو الجميع أن يكون أكثر عدلاً، وما نشهده اليوم هو تحول عالمي جذري مع تراجع الهيمنة الأميركية والغربية وازدياد وعي الشعوب، وخلال ذلك لمسنا صدق مقولة سمو ولي العهد والتي كررها مراراً من أن المواطن السعودي هو رأس المال الأهم لبلادنا، ومن هنا تأتي أهمية الحفاظ على رأس المال هذا وتنميته والاستثمار فيه، وهذه ليست بالمهمة السهلة، إذ يحوجنا إلى بنية اجتماعية قوية تنتج رأس بشري أكثر كفاءة ولا يتحقق ذلك إلا بمنظومة حماية اجتماعية قوية تواجه التحديات كافة انطلاقاً من الإمكانات المتوافرة ووصولاً إلى كل الشرائح المستحقة والمستهدفة. * أستاذ زائر بجامعة أريزونا، مستشار لدى الجامعة الأميركية في بيروت