مدخل: حين تتحوّل السيرة إلى وثيقة تاريخية. تشكّل سِيَر الروّاد في العمل الاجتماعي رافدًا معرفيًا مهمًا لقراءة التحولات الاجتماعية في المجتمعات الحديثة. وفي المملكة العربية السعودية، حيث شهدت العقود الأربعة الأخيرة حركة تحول اجتماعي وتنموي لافتة، تبرز الحاجة إلى توثيق نماذج المبادرة والريادة، خصوصًا تلك التي رافقت مرحلة ما قبل التنظيم المؤسسي الشامل لبرامج التنمية الاجتماعية وتمكين المرأة. في هذا السياق، يأتي كتاب «عند الرهان تعرف السوابق.. الأميرة نورة بنت محمد بن سعود آل سعود» للدكتورة عزيزة بنت عبدالعزيز المانع، أستاذة علم الاجتماع وعضو مجلس إدارة هيئة الأدب والنشر والترجمة، بوصفه عملًا توثيقيًا يسعى لسد فجوة في الأدبيات الاجتماعية السعودية، من خلال رصد تجربة الأميرة نورة بنت محمد، بوصفها إحدى الشخصيات النسائية البارزة في مجال العمل الاجتماعي والتنموي. الكتاب، الصادر عن دار مدارك في طبعة فاخرة، يمتد على 246 صفحة ويتضمّن فصولًا خمسة، وخاتمة، وملحقًا بالصور والأوسمة والوثائق، بما يعزز قيمته التوثيقية ويجعله إضافة لها وزن في مكتبة الأدب الاجتماعي السعودي. بين الهدف والمنهج: لماذا هذا الكتاب؟ تعلن المؤلفة منذ الصفحات الأولى أنّ رهان الكتاب ليس الاحتفاء، بل التوثيق، وتقول بوضوح إن التوثيق هو «الذاكرة الدائمة التي تسجل حقائق كثيرة ترتبط بالمجتمع وثقافته وتاريخه»، وتضيف أنّ الكتاب يسعى إلى أمرين رئيسين هما: توثيق تجربة الأميرة نورة بوصفها إحدى رائدات العمل الاجتماعي النسائي، وتسجيل صفحة من تاريخ تطور العمل الاجتماعي النسائي في المملكة قبل مرحلة الدعم المؤسسي الواسع. وتشير المانع إلى ندرة التوثيق العلمي في هذا المجال، وغياب تسجيل الجهود النسائية مقارنة بما كُتب عن الرواد الرجال، مؤكدةً أنّ كثيرًا مما دوّن سابقًا اتخذ طابعًا وصفيًا عامًا، أو انحصر في الإحصاءات دون النفاذ إلى صميم التجربة والمتابعة الميدانية وشهادات الفاعلين. تعتمد منهجية الكتاب على الوثائق والشهادات الشخصية والروايات المباشرة، نظرًا لغياب أرشيف رسمي يغطي هذه المرحلة بدقة، وهو ما تضبطه المؤلفة عبر إعلانها عن حدود المنهج ومصادره، مؤكدة أن أي نقص محتمل إنما يعكس طبيعة المرحلة لا قصورًا بحثيًا. يتوزع الكتاب على خمسة فصول جاءت بعناوين أدبية لافتة تمزج بين الرمز والمعنى، عاكسةً حس المؤلفة اللغوي وحرصها على أن تكون السيرة قراءة اجتماعية بقدر ما هي نص إنساني، وجاء الفصل الأول بعنوان: في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل، والفصل الثاني: كأنكِ في فم الدهر ابتسام، من الرياض إلى عسير، أما الفصل الثالث جاء بعنوان: ويسعد الله أقوامًا بأقوام، من عسير إلى القصيم، الفصل الرابع: العودة إلى الرياض.. لم تلق عصاها، ولم يستقرّ بها النوى، أما الفصل الخامس فكان بعنوان: أقلام تروي.. وصادق الحب يُملي صادق الكلم. ويختتم الكتاب بملاحق وثائقية تضم صورًا ومراسلات وجوائز تؤكد طبيعة العمل كوثيقة تاريخية لا مجرد سيرة سردية. من الطفولة إلى التكوين: ملامح بيئة التربية يرصد الكتاب بداية الأميرة نورة في الرياض، في أسرة ذات جذور ملكية معروفة، لكنه يركز على جانبٍ آخر أكثر تأثيرًا وهو التنشئة القيمية داخل البيت، حيث لعبت والدتها الأميرة هيا بنت عبدالعزيز دورًا محوريًا بعد فقد الأب مبكرًا، وتصف الأميرة نورة أمها بكونها السند والقدوة، التي كانت تُربي أبناءها على الحوار والمشاركة واحترام الرأي. وتشير المانع إلى أن أسلوب التربية في البيت كان متقدمًا لزمنه، منفتحًا على الثقافة والمعرفة، وتدعمه رحلات تعليمية إلى أوروبا جعلت الاطلاع على الثقافة والمتاحف جزءًا من بناء الشخصية. في هذا الإطار تشكلت لدى الأميرة نورة مبكرًا ملامح شخصية اجتماعية واعية بدور المرأة وضرورة أن تكون شريكة في بناء المجتمع. دروب العمل الميداني: ثلاث محطات.. ورسالة واحدة 1 - عسير: إرهاصات العمل الأهلي الحديث. مع انتقالها إلى عسير في الثمانينيات الميلادية، كانت المملكة تشهد بدايات تَشَكُّل العمل الأهلي المنظم، وهناك بدأت الأميرة نورة رسم معالم نموذجها في العمل الاجتماعي: * حضور مباشر في المجتمع المحلي. * المشاركة في اللقاءات النسائية. * العناية بالأسر المحتاجة. * متابعة الحالات الصحية. * دعم المرأة عبر التدريب والحرف. تصف الأستاذة شريفة عامر، من جمعية الجنوب، طبيعة عملها في عسير بأنه «تفانٍ ميداني لا يعرف الإجازة»، مع متابعة دقيقة للمشاريع والاتصال المستمر حتى أثناء السفر. 2 - القصيم: المجتمع الحميم وفتح الدروب. ينتقل الكتاب إلى القصيم حيث وسعت الأميرة نورة نطاق عملها الاجتماعي، وفتحت مجلسها خمسة أيام في الأسبوع للنساء، واستثمرت اللقاءات اليومية في طرح الأفكار وبذور المبادرات. وتروي الأميرة نورة أن زياراتها المباشرة للأهالي كانت مفتاح الثقة، وأن معرفتها بالمنطقة بدأت من مجالس العزاء والأفراح، حيث اختارت أن تكون مع الناس قبل أن تعمل لأجلهم. وهناك أسست وفعّلت لجانًا تعنى ب: * دعم أسر الشهداء. * برامج الأيتام. * تحفيز فرص العمل للنساء. * دعم الحرفيات. وتنقل المانع قصصًا عن مبادرات قامت بها الأميرة نورة دون إعلان، مثل متابعة دراسة أبناء الأسر المحتاجة أو توفير الرعاية الصحية في الحالات المستعصية. 3 - الرياض: التأسيس المؤسسي واتساع التأثير. مع العودة إلى الرياض، دخلت التجربة مرحلة أكثر نضجًا وتكاملًا؛ إذ أصبحت الأميرة نورة جزءًا من منظومة العمل الوطني المنظم، فترأست لجانًا ومؤسسات خيرية، وأسهمت في بناء نماذج مستدامة في العمل الأهلي، منها: * اللجنة النسائية لتنمية المجتمع بالرياض * جمعية الجنوب. * جمعية «حرفة». * لجنة أصدقاء المرضى. * لجنة رعاية أسر الشهداء. * مجلس أمناء المعهد الملكي للفنون التقليدية. هنا تتضح فلسفتها في العمل: من الرعاية إلى التمكين، ومن الدعم الفردي إلى بناء القدرات والتأهيل. التجربة في سياقها الوطني يوضح الكتاب أن الأميرة نورة كانت جزءًا من تطور أوسع في بنية العمل الاجتماعي في المملكة؛ حيث انتقل من الرعاية المباشرة وتقديم المعونات إلى التمكين الاقتصادي والمعرفي والتدريب وإدماج المرأة في التنمية. وترصد المانع السياق التاريخي لعمل الجمعيات النسائية منذ الستينيات، حين كانت الجمعيات تقوم بمحو الأمية وتدريب النساء قبل وجود برامج دولة مركزية في هذا المجال، وتؤكد أن رائدات العمل الخيري كنّ حلقة وصل بين الحاجة المحلية ونموذج الدولة الحديثة. خصائص الشخصية القيادية يرصد الكتاب جملة من السمات العملية التي شكلت حضور الأميرة نورة: * البساطة والتواضع في التعامل. * الإنصات قبل اتخاذ القرار. * الحضور الشخصي في الميدان. * تحفيز العاملين واكتشاف القدرات. * رفض الظهور الإعلامي. * القدرة على بناء الثقة مع الناس. * الإيمان بالعمل الجماعي: «يد الله مع الجماعة». صوت المجتمع: شهادات تكمّل الصورة في الفصل الخامس، تجمع المؤلفة شهادات من شخصيات أكاديمية وفاعلات اجتماعيات، منهن: أميمة الخميس: تؤكد قوة حضورها الاجتماعي في كل منطقة أقامت فيها، ود. سعاد المانع: تشير إلى بناء علاقات واسعة مع النساء، أما د. سهام الصويغ فتربط بين قيادتها والعمل الميداني الشجاع فيما د. دليل القحطاني تبرز اهتمامها بالتراث الوطني، في حين د. وفاء التويجري ترى في تجربتها مثالًا لنجاح المرأة دون التفريط في أدوارها الأسرية. حديث الأميرة نورة: مفاتيح الفلسفة الشخصية ينقل الكتاب أقوالًا مباشرة تكشف رؤيتها، منها: «وضعت أمامي تحديًا وهو اختراق هذا المجتمع.. فصرتُ أسأل عن المناسبات، وخاصة واجبات العزاء، وأذهب وإن لم أعرف الأسرة». «شاهدت من أمي أن العمل الخيري نمط حياة لا مناسبة»، «تعلمت من الأمير فيصل بن بندر أن العمل المجتمعي رسالة تحمل الأمل والتغيير». خاتمة: سيرة تكتب مرحلة وتفتح أفقًا يمثل كتاب «عند الرهان تعرف السوابق» مساهمةً معرفية وتاريخية في توثيق جزء من سيرة التحول الاجتماعي في المملكة، من خلال رصد تجربة شخصية نسائية عملت في مرحلة حساسة، متقدمة على زمنها، وبروح مبادرة تعتمد القرب من المجتمع والعمل الهادئ. لا يقدّم الكتاب أميرة بوصفها رمزًا رسميًا فقط، بل بوصفها فاعلًا اجتماعيًا ساهم في بناء جسور بين احتياجات المجتمع والأدوات الممكنة، وفي تأكيد أن العمل التنموي ليس نشاطًا إضافيًا، بل أحد أعمدة بناء المجتمع الحديث. بهذا، لا يكتفي الكتاب بتسجيل تجربة فردية، بل يضع لبنة في سجل الذاكرة الاجتماعية السعودية، ويفتح الباب لنقاش أوسع حول دور الرائدات والروّاد في تشكيل الوعي الوطني ومسار التنمية. د. عزيزة المانع