جدارة الموظف لا يثبتها التنظير ولا كثرة الشهادات، بل يبرهنها الميدان، وتقيّمها مصداقية الإشراف، وتقومها مثالية المحاسبة، وتغذيها ديناميكية التطوير والإنتاج.. فالمؤسسة التي تنظر إلى السيرة الذاتية أكثر من نظرتها إلى الأثر الفعلي، تضلّ بوصلتها، لأن قيمة الإنسان في العمل لا في الورق.. في عالمٍ يُفترض أن يكون فيه المنطق مِعيارًا لاتخاذ القرار، تتجلى مفارقة مؤلمة حين نتأمل أسلوب بعض الجهات والمسؤولين عند الافتراض لحاجتهم استقطاب الكفاءات أو التوظيف. هناك في دهاليز المكاتب المغلقة؛ تُكتب شروط القبول الوظيفي من عدمه بطريقة مموهة غير واضحة تشعرك أنها لا لتقود إلى غاية، بل لتعلق بين سقف وسقف، وكأنّ المقصود ليس الوصول إلى الموظف الكفء، بل إلى معادلة مستحيلة تُبقي القرار مؤجلاً والفرصة معلقة والجدارة غريبة الوجه واللسان. فإن تقدّم إليهم صاحب خبرة ميدانية، مارس المهنة وتشرّب تفاصيلها وعايش واقعها العملي؛ قالوا بجمودٍ عجيب: الخبرة لا تكفي؛ أين الشهادة العلمية التي تبرّر فهمه وتؤطر ممارسته؟ وإن جاءهم صاحب شهادة أكاديمية مرموقة، أتعب نفسه في تحصيلها، وبلغ في التخصص مبلغًا يليق بالعلم وأهله، قالوا ببرودٍ مكرر: الشهادة لا تكفي؛ أين الخبرة العملية التي تثبت أنه لا يعيش في برج نظري؟ وبين هذا وذاك؛ تضيع الكفاءات في شباك ازدواجية لا تنتهي؛ كأنهم يريدون موظفًا خُلق قبل الوظيفة بعقود، واكتمل تأهيله من كل وجه قبل أن يُولد. وما إن يظهر من يجمع العلم والخبرة معًا، وهو النادر الذي طالما بحثوا عنه في شعاراتهم وخطاباتهم، حتى يتحوّل الإعجاب إلى شكٍّ، والإشادة إلى ريبة، فتُستحدث شروط جديدة بلا منطق سوى الهروب من الاعتراف بأن الكفاءة حضرت، عندها يُقال: نبحث عن من يمتلك مهارات القيادة، أو روح المبادرة، أو من يجيد ما لم يُطلب أصلًا. هكذا يمكن أن تُبدّل المعايير كلّما اقترب أحدهم من استيفائها، وكأن المقياس لا يُراد له أن يُملأ بل أن يُبقى ناقصًا دائمًا لتستمر لعبة السيطرة وتبرير القرار. تلك الجهات التي تحتاج للتوظيف لا تدرك أنها بخلطها بين المعيار والمزاج، تُطفئ في الناس حماس التقدّم، وتغرس في المؤسسات روح التردد، وتصنع بيئة لا تكافئ الجدارة بل تصنع الخيبة، فكيف تُبنى منظومات مهنية على موازين لا تستقر، ومقولات متناقضة تُغلق الباب على من يملك العلم والخبرة، وقد تفتحها على من يجيد التزيّن بالكلمات، أو الاتكاء على العلاقات. إنّ جدارة الموظف لا يثبتها التنظير ولا كثرة الشهادات، بل يبرهنها الميدان، وتقيّمها مصداقية الإشراف، وتقومها مثالية المحاسبة، وتغذيها ديناميكية التطوير والإنتاج، فالمؤسسة التي تنظر إلى السيرة الذاتية أكثر من نظرتها إلى الأثر الفعلي، تضلّ بوصلتها، لأنّ قيمة الإنسان في العمل لا في الورق، والجهات المرتبكة بين المتطلب المهني والخبرة والمؤهل العلمي، حين تواجه من يجمع بينهما، وتُعجزه بشروط متقلبة، فإنها تخسر باضطراب قناعتها قبل أن تخسر كفاءته، ويخسر طالب الوظيفة فرصةً كان يمكن أن تُثمر نجاحًا مشتركًا. إنّ المنطق الإداري الذي يرفع الشعار ولا يطبقه، قد يسبب خللاً في ميزان العدالة المهنية، ويجعل من القرارات أهواء مموهة بلغة البيروقراطية. لقد آن لهذا المقرر وواضع الشروط، وتلك العقلية أن تدرك أنّ الجمع بين العلم والخبرة ليس ترفًا؛ بل ضرورة العصر، وأنّ الموازنة بين النظرية والتطبيق هي ما يمنح المؤسسات قدرتها على التجدد، لا تلك الاشتراطات المعلقة التي لا غاية منها إلا إثبات الحضور الإداري على حساب الجوهر. إن المسؤول الذي يخاف من الكفاءة لأنها تذكّره بعجزه، سيظل يبحث عن ثغرة يعلق عندها القرار، لا عن طاقة يفتح بها باب الإنجاز. ويبقى القول: إن جوهر الإدارة وتجليها لا يُقاس بحجم طول التعقيد، بل بقدر وعي وتوازن عقل صاحبه، وإن العدالة في الاختيار ليست تفضيل شخص على آخر، بل تفضيل المنطق العملي وحاجة الجهة الفعلية على اتجاهات التفكير القاصرة، والغاية على العُذر، والكفاءة على التبرير وإلا ستكون هناك وظيفة لا تريد موظفاً!